د. رجب بن علي العويسي:
يمارس التواصل الاجتماعي الرقمي اليوم دورا احترافيا في حوكمة العمل المؤسسي وترسيخ معاييرها في الأداء الحكومي، وتعزيز مفهوم أعمق للشراكة الإلكترونية القائمة على مشاركة المواطن في عملية المحاسبة والمساءلة، وتقديم المعلومات الكافية عن أداء المؤسسات، في ظل ما أتاحته التقنية له من فرص التعبير عن رأيه، وإيصال صوته وفكره وملاحظاته ووجهات نظره إلى الحكومة وقطاعاتها ومؤسساتها بكل شفافية ووضوح، لذلك أصبحت هذه المنصات تمارس دور الضغط على السياسات الحكومية حول المسار الذي يجب أن تتجه إليه في عمليات الإصلاح والتطوير والمراجعة والتقنين، وفي الوقت نفسه أصبحت أداة مهمة يعتمد عليها المجتمع في تقييم الأداء الحكومي المؤسسي، والوقوف على الجهد المبذول في، ومستوى اقترابه من الرؤية الوطنية "عمان 2040" وتحقيقه لاحتياجات المواطنين وأولوياتهم، حتى أصبحت أداة كاشفة للعمل، ووسيلة ناجعة لمعرفة أوجه القوة وجوانب الضعف والفرص والتحديات والاختلالات الحاصلة فيه، ولعل ما تتميز به هذه المنصات من فرص الانتشار الواسع، وخصوصية التفاعل وسرعة التداول، وإمكانية الوصول إليها من كل أطياف المجتمع وشرائحه، وبخاصة مجتمع الشباب، الذي يشكل الفئة الأكبر حضورا في هذه المنصات، وإمكانية توظيف نواتجها والاستفادة مما يطرح فيها باستخدام عمليات التحليل والإحصاء واستطلاعات الرأي والمسوحات الدورية والتشخيص المستمر للحالة الوطنية بهدف تحديد اتجاهات الأفراد وقياس الرأي العام، وتوفير الحلول والبدائل لإدارة معطيات الواقع، كل ذلك وغيره يطرح القيمة التنافسية لهذه المنصات في إنتاج واقع المجتمعات بما يتناسب مع طبيعة المرحلة، وبالتالي لم يعدد أمام السياسات الحكومية إلا أن تصنع حضورا نوعيا لها عبر هذه المنصات، بحيث توظفها في تحقيق شراكة عملية مع المواطن لضمان الاستفادة القصوى من الميزات التنافسية لها من جهود، وفي الوقت نفسه احتواء المواطن والأخذ بيده وتوجيهه نحو مساندة الحكومة في تنفيذ سياساتها وبرامجها التنموية على أرض الواقع.
ولمّا كانت هذه المنصات تعمل في إطار منظومة تواصلية عالمية، وما يحمله ذلك من معطيات أخرى قد توجه حراك المجتمع خلالها إلى مسارات غير مرغوبة، خصوصا في ظل ما ارتبط بهذه المنصات من دعوات إلى التجمهر السلمي والمطالبة بالتخفيف من عبء الإجراءات وتأثيرها على المواطن، وفي ظل اتساع حضور الحسابات الوهمية المغرضة وما تحمله من أهداف وأجندة خفية يتلقاها الشباب المستخدم لهذه المنصات، وتزايد دور ما يسمى بالذباب الإلكتروني، فقد أعطى ذلك مساحة أوسع للجهات المعنية بالدولة في بناء سياسات أكثر مرونة وأقرب إلى فتح باب الحوار مع المواطن، عبر تنازلات تقدمها، أو إجراءات أخرى تعيد فيها النظر في القرارات السابقة استجابة لمطالب المواطنين ورغباتهم، ومؤشرا لوقوف أجهزة الدولة المعنية على مطالب الشباب في إطار منظومة الحقوق والواجبات وحرية التعبير التي كفلها النظام الأساسي للدولة وأطرتها القوانين والتشريعات النافذة، هذا الأمر يأتي في ظل وعي الحكومات وإدراكها بأن سياسة القوة اليوم لا تتحقق إلا عبر احتواء المواطن والاستماع إليه والقرب منه والأخذ بيده وفتح آفاق رحبة للحوار والشراكة، إذ من شأن ذلك أن يؤسس لمرحلة متقدمة من العمل المشترك والأداء المتوازن، وتجنيب المجتمع كل مسببات الفرقة وموجبات الفتنة، بحيث يشعر فيه الجميع بمسؤولياته نحو المحافظة على وطنه والحيلولة دون التباين في وجهات النظر المفضي للخلاف، وفي الوقت نفسه يمنح المواطن فرصا أكبر في المشاركة الفاعلة في مجتمعه وفق استراتيجيات واضحة وأنظمة أداء مقننة، من خلال تنشيط مبادراته وتوجيه طموحاته في إطار عمل مشترك، بالإضافة إلى مزيد من التوافقية في استشعار المواطن لمسؤولياته وواجباته، والغايات والأهداف التي سعت الحكومة إليها من خلال إقرار هذه الإجراءات فيعمل على مساندتها ويقف معها موقف الداعم لها، كما تعكس تصرفاته القادمة استشعار هذا الجهد الوطني والمحافظة عليه والعمل على ديموميته في ظل ما يحمله من فرص ويقدمه من شواهد عمل، هذا الأمر من شأنه أن يضع المؤسسات أمام مراجعة أدواتها وتقييم أدائها وضبط ممارساتها، بما يعزز من متابعة المؤسسات لما يدور في فلك هذه المنصات، وما يطرح عبرها من قضايا ذات صلة بعملها واختصاصاتها، وتقديم إجابة أو بيان مؤسسي أكثر شفافية ووضوحا في توضيح الصورة حول الموضوع، والقرارات والتوجهات التي اعتمدتها الجهات المعنية بالدولة بشأن تحسين الوضع المعيشي للمواطن، أو الوقوف على واقع الممارسة المجتمعية الحاصلة، ورصد تجليات الحدث، وبالتالي الثقة التي يؤسسها هذا المسار، والروح الإيجابية التي ينتجها بما يفتح المجال للمزيد من الشراكة مع المواطن والاستماع إليه والإنصات له، وإشراكه في توفير البدائل والحلول والمبادرات التحسينية، وحلحلة التحديات وفق إجراءات مقننة، ومبادرات جادة، وحزم تحفيزية وتطويرية لتبسيط الإجراءات وتقليل الهدر.
وأعطت بدورها الهاشتاقات عبر موقع التدوين الاجتماعي المصغر (تويتر)، والتغريدات الكتابية والمقاطع الصوتية والحركية عبر اليوتيوب والتيك توك والفيديوهات وغيرها حول قضايا الباحثين عن عمل والمسرحين من القطاع الخاص، والتوظيف والتشغيل، وتداعيات الإجراءات الاقتصادية المتخذة على حياة المواطن، وارتفاع أسعار الخدمات الحكومية، ورفع الدعم الحكومي عن الكهرباء والمياه والوقود، وتزايد دعوات الشارع العماني للحكومة بالمطالبة بمراجعة سياساتها الاقتصادية وتبعاتها الاجتماعية، وحجم التفاعل المجتمعي معها، أعطى صورة مكبرة حول قدرة هذه المنصات التواصلية على إحداث تحول في السياسات الحكومية وفرض مسار جديد يعتمد على استشعار الجميع بأهمية الوصول إلى إطار عمل وطني، تتكامل حوله الجهود وتنسج خلاله خيوط اتصال وتواصل لخدمة عمان وأبنائها، بما انعكس إيجابا على مسار التعامل مع معطيات الواقع الجديد الذي فرضته هذه المنصات في ظل المطالبة بالحقوق أو الدعوة إلى إعادة النظر في بعض القرارات المتخذة، ودعوة صريحة أكثر شفافية لقراءة الواقع الاجتماعي في أبعاده المختلفة النفسية والفكرية والاقتصادية والشبابية والأبعاد المستقبلية المرتبطة بالممارسات والظواهر الناتجة عنها، ومستوى الجاهزية المؤسسية في التعامل معها بفكر مستنير وجهد متقن، وشراكة حقيقية، واحتواء لكل شرائح المجتمع، ومراجعة للأدوات والآليات، والتوسيع في الخيارات والبدائل، وتوفير برامج عمل تحتوي الشباب وتوجه طاقاتهم وتحافظ على سقف توقعاتهم، عبر فرص العمل المتاحة لهم، والثقة فيهم، وحضورهم في واقع الإنجاز، وترقية أساليب الخطاب التواصلي وإيجاد منصات وطنية تستقطب أفكار الشباب، وتتيح لهم فرص النقاش وإبداء الرأي والمناظرات الفكرية القائمة على توفير الأدلة والشواهد، وبالتالي أعطت عملية التفاعل الحاصلة مع هذه المنصات الاجتماعية نموذجا عمليا في كيفية نقل هذا الحوار عبر هذه المواقع إلى ممارسة واقعية لما تتيحه من بدائل ومعالجات تنفيذية داعمة للحكومة في خططها القادمة.
ويبقى امتلاك مؤسسات الدولة للآليات والأدوات والسياسات الداعمة في التعامل الواعي المقنن مع مقتضيات المنتج الفكري للتقنية ومنصات التواصل الاجتماعي، منطلق لتوظيف الفضاءات المفتوحة في تحقيق استدامة التنمية، وجعلها مساحة ذكية للتواصل والحوار، بما يعزز من بناء الاستراتيجيات وتوفير البرامج والخطط التشغيلية والجاهزية فيها، وإيجاد التشريعات الداعمة للمحافظة على بقاء عملية التواصل قائمة على أسس ومنهجيات ومبادئ وأخلاقيات تعكس الهُوية العمانية، والشراكة التي أسستها في مسيرة عملها، والروح الإيجابية المسؤولية التي رسختها في أبناء عمان وانطلقت منها نهضتها المتجددة بما يزيد عن خمسة عقود، بحيث تستثمر هذا الحضور المجتمعي، وترصد نتائجه، وتوظفه في برامجها وأجندة عملها، ومن خلال تعميق وعي المجتمع الحقوقي وتعزيز الثقافة القانونية لديه، والمشاركة الواعية والمسؤولية الاجتماعية لديهم، لتتجه الجهود الوطنية خلالها إلى تقوية شبكات التواصل النوعي والمبادرات الجادة ومحطات الإنجاز التنافسية لصالح قوة المجتمع وكفاءة منظومته الشورية والديمقراطية على حد سواء.
أخيرا، فإن إسقاط ملف الكهرباء على هذا الطرح، وما حصل بشأن ارتفاع فواتير الكهرباء في شهري يونيو ويوليو من عام 2021 من ردود فعل مجتمعية، كانت منصات التواصل الاجتماعي الداعم المباشر لها وسلسلة الهاشتاق التي عبَّر فيها المتضامنون عن عدم رضاهم واستنكارهم لذلك، والخطوات التي اتخذتها هيئه تنظيم الخدمات العامة بدأت مع البيان الذي أصدرت الهيئة، ثم المؤتمر الصحفي، وصولا إلى قرار نتائج التقييم الشامل لبرنامج إعادة توجيه الدعم لقطاع الكهرباء، وجملة الحزم التطويرية المدخلة في زيادة عدد الوحدات في الشرائح للفئات السكنية من حساب المواطن، مؤشرات إيجابية للتحول الذي صنعه التواصل الاجتماعي في مسار إعادة المراجعة للسياسات الحكومية، وقرارات مؤسسات الجهاز الإداري للدولة، وورقة ضغط جديدة بيد المواطن تؤسس للمزيد من التشريعات والتوجهات الإيجابية نحو التوظيف المهني لهذه المنصات في خدمة العمل الوطني وقضاياه المختلفة، بما يستدعيه ذلك من تنشيط الأدوات والآليات الخاملة التي لم يستفَد منها في حوكمة ومتابعة ومراقبة الأداء الحكومي، ولعل الرؤية الجديدة "عمان 2040" والتوجيهات السامية لجلالة السلطان المعظم في خطبه السامية، وأوامره الكريمة لمجلس الوزراء الموقر في الإسراع في تنفيذ متطلبات الإدارة الإلكترونية، يعطي مساحة أمان في تعزيز مسار العمل ومنهجية الأداء وكفاءة الأدوات الموجهة نحو الاستفادة من هذه المنصات التواصلية في الاستجابة الواعية لاحتياجات المواطنين والوقوف عليها، وتذليل الصعوبات التي تواجه المواطن في أمور معيشته وتبسيط الإجراءات، وضمان الحد من الهدر المالي والإداري، وتجفيف منابعه بما من شأنه العمل الجاد نحو الانتقال بعمان إلى مستوى طموحات وآمال أبنائها في شتى المجالات، باعتباره عنوان المرحلة القادمة، والمسار الذي يجب أن يتقنه الجهد الحكومي القادم.