د. حميد بن محمد البوسعيدي:
لعله من المناسب القول بأن قطاع الكهرباء من القطاعات الساخنة في الوسط الاجتماعي في كل دول العالم وذلك لما له من أهمية مفصلية في الحياة اليومية للسكان وأهمية قصوى في الشأن الاقتصادي والسياحي والزراعي. ومن الناحية التشريعية فهذا القطاع مرت عليه مراحل متعددة من سياسات " التخصيص" أو " الخصخصة" وذلك بقيام الدولة بإصدار ما يقرب من ثلاثة مراسيم سامية (78/2004 و 59/2009 و 47/2013) كلها تعنى بأمور تخصيص قطاع الكهرباء، رغبة في الوصول الى أعلى كفاءة تشغيلية وانتاجية لهذا القطاع. ولعله من غير المناسب الحديث عن تلك المراسيم فهناك جهات حكومية تعنى بمتابعة ما ورد بها وبسياسات تخصيص قطاع الكهرباء، منها على سبيل المثال الهيئة العامة للكهرباء (الملغاة)، وزارة المالية هيئة تنظيم الكهرباء سابقا، وحاليا هيئة تنظيم الخدمات العامة التي أنشئت عام 2020م.
إن سياسة تخصيص الكهرباء التي انطلقت منذ عام 2004م بإعادة هيكلة القطاع وتحويل وزارة الكهرباء والمياه الى هيئة الكهرباء والمياه وما تبعه من إنشاء عدد من الشركات الحكومية، هذه السياسة حتى الان قد لا تعد تخصيصا بالمعنى الصحيح. فالتخصيص أو الخصخصة هو نقل أنشطة وخدمات قطاع الكهرباء من القطاع العام (الحكومي) الى القطاع الخاص. ويهدف هذا الانتقال بشكل عام إيجاد أرضية عمل لعلاج الاتهامات التي عادة ما توجه للقطاع العام من البيروقراطية في العمل وضعف الأداء وعدم الكفاءة والإنتاجية، حيث يصنف في المقابل القطاع الخاص بأنه قطاع ذو كفاءة تشغيلية وإنتاجية أفضل و أيضا يتميز بمعايير اشد صرامة من حيث تطبيق مبدأ الرقابة في الإنفاق والشفافية والإفصاح المالي وصولا الى تحقيق أرباح لأصحاب العلاقة أو ملاك الشركة الخاصة.
والمتأمل للشركات الحكومية التي تم إنشاؤها جراء تخصيص قطاع الكهرباء والتي وصلت الى (8) شركات حتى عام 2009م ورغم مرور ما يقرب من (12) عاما على إنشاء تلك الشركات، وبالرغم من المراسيم التي نصت على التخصيص والعمل على تحويل ملكية تلك الشركات أو بعضا من أسهمها من الحكومة إلى الأفراد أو القطاع الخاص، إلا أن ذلك لم يتم حتى الآن ، عدا بيع 49% من أسهم الشركة العمانية لنقل الكهرباء لشبكة الكهرباء الوطنية الصينية في نهاية عام 2019م.
هذا التأخير وعدم المضي قدما في استكمال مراحل التخصيص قد يكون مؤشرا مفاده بأن عملية إعادة هيكلة قطاع الكهرباء لم يتم إعطاؤها حقها من الدراسة العلمية من حيث مدى تناسب تأسيس ذلك العدد من الشركات الحكومية والهيئات الرقابية المنوطة بقطاع الكهرباء مع تعداد سكان السلطنة والبيئة الجغرافية والتكاليف التشغيلية. عليه ارتأت الحكومة ورغبة منها في حماية المواطن الاستمرار في تقديم الدعم المالي لهذا القطاع وهذا ما يلاحظ من تدخلها في تعديل تعرفة استهلاك الكهرباء مرتين في 6 أشهر خلال هذا العام.
والقول قد يعد صحيحا بأن أغلب الشركات الحكومية لم تستطع تهيئة نفسها للعمل بمنهاج التحول من القطاع العام الى الخاص وتطبيق قواعد وممارسات الشركات الخاصة وتطبيق معايير الإفصاح المالي والحوكمة وتطبيق المعايير المحاسبية في عرض كامل نتائجها المالية تطبيقا لقواعد الهيئة العامة لسوق المال. ومن المؤسف حقا أنه حتى بعد صدور معيار حوكمة الشركات الذي تبناه مركز عمان للحوكمة نجد بأن أغلب الشركات الحكومية لم تستطع الايفاء بمتطلبات الحوكمة وحصلت على استثناء من تطبيق ذلك المعيار. وخلاصة القول هنا أن الجهات الحكومية المعنية وجهاز الاستثمار المشرف على تلك الشركات وجدت مبررا لمنح ذلك الاستثناء، رغم أن مجلس الشورى أثار موضوع استثناء الشركات الحكومية من تطبيق معيار الحوكمة في وقت ليس ببعيد.
ولعله يلوح في الأفق بأن سياسات تخصيص قطاع الكهرباء لم تؤت أكلها بعد. فالشاهد لما يحدث هذا العام من تغيير في شرائح استهلاك الكهرباء والتفريق بين استهلاك المواطن وغير المواطن رغبة في تحويل الدعم لمستحقيه من المواطنين، يعطي مؤشرا بأن الاقتصاديين الذين عرضوا أفكارهم ونادوا بتخصيص قطاع الكهرباء سابقا وحاليا لم تستطع أفكارهم ودراساتهم أن تواكب الواقع والمجتمع العماني. كما أن أطروحات تخصيص قطاع الكهرباء نرى بأنها لم تبن على تدرج مقبول في رفع شريحة استهلاك الكهرباء لكل الاستخدامات. ولعل المراجعة الشاملة لقطاع الكهرباء التي أعلنت عنها هيئة تنظيم الخدمات العامة الشهر الماضي قد تكون توصلت الى قناعة بأن مبادرات رفع الدعم الحكومي عن قطاع الكهرباء لم يحن وقتها بعد، الأمر الذي استلزم معه تدخل الحكومة وحسم قضية تعديل استهلاك الكهرباء لصالح المواطن. علاوة على ذلك فإن هيئة تنظيم الخدمات العامة تدرس حاليا إعادة النظر في تعريفات الاستهلاك للقطاع التجاري والصناعي والزراعي رغبة في أن يكون قطاع الكهرباء مساهما إيجابيا في مبادرات التحفيز الاقتصادي.
وحتى لا نظلم الاقتصاديون الذي نادوا بتخصيص قطاع الكهرباء فأفكارهم قد تكون صائبة، إلا أنه قد يكون اعترضها الركود الاقتصادي لسعر النفط المتدني في الأعوام السابقة، هذا السعر يعتبر الداعم الأساسي لإيرادات خزينة الدولة، وأيضا تداعيات وباء كوفيد 19 من تأثير سبلي على الاقتصاد الوطني بشكل عام وعلى النمو في دخل الفرد الذي ظل ثابتا لسنوات طويلة، مع زيادة الفاتورة المعيشية على المواطن وذلك بإدخال مفهوم الضرائب في تنويع مصادر الدخل، من أجل كبح جماح الدين العام الذي وصل لمستوى 20 مليار ريال عماني حتى عام 2020م، وهو مستوى غير مسبوق في تاريخ الإقتراض المالي العماني. عليه كان لزاما في كل انتكاسة في قطاع الكهرباء أن تقوم الحكومة بالتدخل لتقليل العبء المالي عن كاهل المواطن، وبالتالي فلم يكتب لهذا التخصيص النجاح في تحقيق الأهداف السامية من تطبيقه.
ولعل الجميع يدرك أهمية العمل على إنجاح رؤية عمان 2040م ومن ضمنها الشركات والجهات المسؤولة عن قطاع الكهرباء. إلا أن المواطن (ومع ما تحمله هذه الرؤية من تطلعات مشرقة) يرى أنه لا زال يخوض غمار تجارب تخصيص غير مدروسة. هذا التخصيص لم يستطع الوصول حتى بنسب مرضية في أبسط الأمور وهي أخذ قراءات عدادات الكهرباء والتي لا زالت أغلبها تقديرية فكيف الوصول الى تمكين تلك الشركات الحكومية التى تعنى بالكهرباء في تهيئة نفسها نحو رؤية عمان 2040م التى تنادي بتجويد الخدمة وبناء معايير قياس مبتكرة. والسؤال الحائر كيف السبيل لتحقيق تلك الرؤية في ظل الغموض الذي يكتنف قطاع الكهرباء وعدم توافق سياسات التخصيص مع البيئة العمانية وتطلعات المواطن الطموحة التي ينتظرها من رؤية عمان 2040م.
السياسات المتعلقة بتخصيص قطاع الكهرباء أو إعادة هيكلة قطاع الكهرباء علميا وعمليا تحتاج إلى إعادة النظر في المعايير التي بنيت عليها من حيث مدى وجود نماذج استرشادية لدول تتشابه مع السلطنة من حيث دخل الفرد والطبيعة الجغرافية الحارة للسلطنة ومواكبة ذلك مع رؤية عمان 2040م المتمثلة في رغبة الدولة في رفع مستوى الدخل للأفراد وأن تكون إجراءات التخصيص شاملة لكل مجالات وأنشطة القطاع المتثملة في توليد ونقل وتوزيع الكهرباء وحقوق المستهلكين، وألا يكون المواطن محل تطبيق لتجارب قد توسم بالغموض وعدم الشفافية جراء تخصيص قطاع الكهرباء، وينتظر منه إما الرضا بما هو مطبق، أو أن يجد ضالته في التعبير عن سخطه عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أجل إسماع صوته ومعاناته للحكومة عما لحق به من ضرر جراء تطبيق أفكار ودراسات كلفت الدولة مئات الملايين من الريالات ولم تستطع الوصول الى رضا المواطن.

خبير بمكتب ضمان الجودة. جامعة السلطان قابوس
[email protected]