سرد أثري لوقائع تاريخية تبرز العمق الفكري الفريد

مسقط -العمانية:
تشكل الحارات العمانية القديمة خصوصية مثالية لارتباط إنسان عُمان بأرضه وثقافته الراسخة، حيث العمق التاريخي الفريد، تتعدد بتشكيلاتها ومواقعها ذات الخصوصية الاجتماعية المتفردة، مرورا بتفردها بالأحداث المتعددة التي رافقت نشأتها وتكوين جغرافيتها، من بينها حارة السيباني، وحارة السليف، وحارة فنجاء، وحارة اليمن، وحارة العقر .. وغيرها من الحارات العمانية التي لا تزال عالقة بحواضرها في مخيلة كل عماني. حارة السيباني، بنيابة بركة الموز بمحافظة الداخلية، هي إحدى أهم الحارات العمانية القديمة في عُمان، عملت منذ أمد بعيد على إيجاد التكوين الجغرافي الاجتماعي والثقافي الذي طالما شكل البيئة العمانية الاستثنائية في ولاية نزوى، ذلك التكوين الذي جاء نتيجة تفاعل الأوائل من أبناء عُمان مع الظروف المحيطة بهم، وتطويعها بما يتناسب مع معطيات عصورهم وتعدد أحوالها وخصائصها. والمتتبع لبنية حارة السيباني وتشكلها يجد تلك الخصائص الدفاعية ونمط الشوارع وكافة الدلائل القائمة لفهم تطورها وتنظيمها، بما في ذلك برجها الدائري الذي يتيح هو الآخر إمكانية المراقبة والتواصل مع الأبراج الأخرى المنتشرة فيها. وما يميز الحارة أن جدارها الشرقي يحتوي على (بوابة للهروب) تفضي هي الأخرى إلى أسفل التلة باتجاه منطقة (الجنينة) التي يوجد بها مسجد صغير ومقبرة. وثمة تفاصيل دقيقة تضمها الحارة بما في ذلك تلك الأبنية الحجرية الجافة التي يروى بأنه كان يستخدمها الحراس (السياب)، وربما أخذها لاحقا رعاة الأغنام شبه الرُّحل واستخدموها لإيواء قطعانهم. وتشير المصادر إلى توسعة شملت الحارة باتجاه الجنوب منذ فترة من الزمن شملت الساحة الحالية الكبيرة للمدخل التي يوجد بها مسجد اسمه (مسجد الولجة) مع مدرسة لتعليم القرآن ومنزلا كبيرا يسمى بيت الصقور. تحتوي الحارة على عدد من المرافق العامة تتركز غالبا على طول قناتي الفلج أو بالقرب منهما، يقسمهما فلج الخطمين داخل الحارة. ومن بين تلك المباني مسجد الولجة في انسجام مع الطبيعة الرسمية السائدة في محافظة الداخلية، فهو يتخذ شكل (شبه المكعب) في مظهره بمدخلين أمامي وخلفي على منصة مرتفعة، ويحتوي على محراب مقوس غير مزخرف، وتعلوه قبة صغيرة. بالإضافة إلى مدرسة لم يبق منها سوى واجهة المدخل لجنوبية، وقد كانت فيما مضى قاعة طويلة ذات ارتفاع بارز، بالإضافة إلى غرفة بئر ملحقة بها ويمكن دخولها من الجهة الشمالية وكانت هذه البئر المصدر الوحيد للماء إلى جانب الفلج. أما السبل فتختلف أنواعها فهناك العامة المفتوحة لجميع قاطني الحارة، والسبل الخاصة المعنية بقبائل بعينها، مثل سبلة الصباح والسبل شبه الخاصة الملحقة بالمساكن المهمة. تتمتع مساكن الحارة ـ وكلها تقريبا ذات طابقين ـ بمخطط مركب، ويعود ذلك جزئيا إلى التعقيد الطوبوغرافي الذي تعين عليها التعامل معه. وغالبا ما تتداخل المساكن مع بعضها فتمتد إلى ممتلكات مجاورة. وعلى نحو فريد غير شائع تحتوي بعض المساكن على مداخل من الطابق العلوي نتيجة للتحول الطوبوغرافي الذي حدث في الحارة. والمتتبع لحارة السيباني يجد النمط السكني الشائع في محافظة الداخلية إلى حد كبير، حيث تحتوي على حظائر (للأغنام والأبقار) ومخازن التمور وغيرها من المرافق الحيوية. وتتميز بتجانسها مع طوبوغرافيتها، وتبدو عليها آثار تشكيلية، تشير إلى تأقلمها مع التحديات الطوبوغرافية في ظل توسع الحارة، تلك الطبيعة الفريدة فرضتها التلة المنحدرة التي نشأت الحارة على طولها، كما تشتمل على أوجه تشابه كبيرة مع الحارات الجبلية الشائعة داخل عُمان (مثل مسفاة العبريين)، إلا أن التلة المنحدرة بالتحديد أوجدت فروقًا كبيرة بين أنواع المباني التي تجسر لدراسة واسعة شاملة تكشف خبايا تلك الفروقات وأنواع منازل الداخلية. ثمة مؤشرات على أنه بعكس التاريخ المتداول بين الناس، يحتمل أن منطقة الحارة كانت مأهولة في أزمنة ماضية، ويدل على ذلك اتساع رقعة العمران خلف البرج الدائري على قمة التلة. وظل الموقع الاستراتيجي لواحة بركة الموز وللحارة بوابة إلى الجبل الأخضر محافظًا على أهمية، إذ تقع الواحة بالقرب من النقطة التي ينبثق منها وادي المعيدن من بين التلال مما يتيح السيطرة على مدخل الجبال. أضف إلى ذلك أن المسجد (الشريعة القديمة)، والمسكن المحصن (بيت الرديده)، يقعان هناك. وتجمع الحارة قنوات الفلج وما يتصل به من نقاط تجميع الماء واستخداماته، وكلها مدرجة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو. وتعد حارة السيباني نموذجًا لأعمال التطوير المتأخرة في الحارات في القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين، تزامنًا مع تطوير طرأ في الحمراء وإعادة بناء عدد من التجمعات السكنية في ذلك الوقت، مثل حارة اليمن في أزكى، إذ تتسم هذه التجمعات بسرعة إعادة تشييدها، كما يعكس تطور الحارة الصعود الاجتماعي التدريجي، لبعض العائلات، ما أدى إلى نشوء مساكن كبيرة جدا، في سفح التلة، وهذا التحرر الحديث نسبيًا من العقبات الطوبوغرافية نتج عن زيادة الثروة أدى إلى نشوء منطقة مدينة جديدة احتوت على مساحة مفتوحة طالما شغلها المسجد. يتضح من التاريخ الاجتماعي والسياسي للحارة مدى تعقيد الحياة وتحلي السكان بالصبر، ويدل التنوع الكبير في المجالس ـ من شبه الخاصة إلى العامة ـ على اختلاف آراء الناس وتصوراتهم حول الاجتماع البشري وأنشطة المجتمع، وهـذه بالذات ميزة متفردة عن التجمعات. هناك مجموعة من المخاطر القائمة التي تهدد أهمية الموقع وتتمثل في أن الحارة بأكملها ليست مأهولة في الوقت الحاضر، نتيجة التحول الديموغرافي سواء من محافظة الداخلية التي يغلب عليها الطابع الريفي باتجاه مدينتها الرئيسة (نزوي)، أو باتجاه العاصمة مسقط. ويعود ذلك إلى العزوف العام عن العيش في بيئات تقليدية نتيجة للتغير الاجتماعي الكبير وعوامل (العصرنة) التي تمر بها السلطنة في الوقت الراهن. وبذلك فإن المشكلة التي تعاني منها الحارات العمانية التقليدية هي نزوح السكان أو هجرتهم، ونظرا لهجر المساكن في الحارة لا توجد صيانة مستمرة وحفظ فوري للمشكلات التي تظهر بسبب هذا الهجر. كما أن الأنقاض المتداعية ومخلفات السكان المحليين تشكل خطرا كبيرا على الصحة والسلامة، وتحديا ماثلا أمام عملية الحفظ. وفي هذا الإطار عملت السلطنة ومن خلال مؤسساتها الرسمية المعنية على إيجاد منظومة متكاملة للحفاظ على تلك الخصوصية التاريخية الثقافية والاجتماعية للحارات العمانية من خلال تسخير كافة إمكاناتها لإعادة ترميمها وإعمار مكوناتها وتقدم نموذجًا فعليًّا تقدميًّا في شأن الهندسة والعمارة العمانية التقليدية. وقد سعت الحكومة للاشتغال عليها من خلال أسس علمية متخصصة في مجال حماية تجمعات المباني التاريخية. وتعود أهمية حارة السيباني إلى كونها بوابة تاريخية وثقافية اجتماعية نحو الجبل الأخضر الذي يعد وجهة سياحية معروفة في السلطنة، نظرًا لما يتمتع به من طقس فريد، ولقد أصبحت الحارة مزارًا سياحيًا ما يجعل من الممكن تعزيز هذا الاهتمام السياحي عبر وضع خطة مناسبة لإدارة التراث، كما تتميز بتكونها الطوبوغرافي الفريد، فهي تمتد على واجهة تلة شديدة الانحدار، وبروزها للعيان بالإضافة إلى تاريخها القبلي والحديث، مرورًا بتنوع مساكنها تبعًا بما يتماشى مع التحديات الطوبوغرافية التي تشكل الرؤية العامة للحياة في تلك المناطق المحيطة بها.