أعمالها تشير إلى صمود المرأة العربية

عمّان -العمانية: اتسمت الأعمال الأولى للتشكيلية الأردنية هيلدا الحياري بانتمائها إلى المدرسة الواقعية، إذ تعلمت الفنانة أساسيات التشريح ورسم التفاصيل الواقعية في مرسم الجامعة الأردنية التي درست فيها العلوم السياسية وعلم الاجتماع، وحين أتقنت ذلك اتخذت من الرمزية أسلوبًا لها، لتتجه بعد ذلك إلى الرسم وفق المدرسة التعبيرية التجريدية، قبل أن تقدم تجارب لافتة في الفيديو الفني والتركيب أو الإنشاء الفني.
ويمكن عدّ مرحلة التجريد المرحلةَ الأثيرة في تجربة الحياري التي قادها شغفها إلى دراسة الفن في جامعة الزيتونة، حيث حصلت على شهادة البكالوريوس منها، ويعود ذلك ـ كما ترى الفنانة ـ إلى أن التجريد (يعطي للفنان أسلوبه الخاص وبصمته المميزة)، لهذا تحاول من خلال أعمالها التجريدية، التركيزَ على الجانب الروحاني، موضحةً:(غالبًا ما أخرج وحيدة إلى الصحراء كي أتأمل.. وهذا التأمل يمدّني بطاقة روحية تنعكس في أعمالي الفنية).
وتتمركز أعمال الحياري ـ التي أقامت العديد من المعارض في الأردن والدول العربية وأوروبا ـ حول النقطة أو الدائرة التي تتمظهر بتجليات فلسفية عديدة، تشبه الكون واستمراريته، وتُقارب الفضاء وأجرامه، مع تقنية تتراكب فيها الألوان ضمن طبقات تتمازج وتتداخل من الأحمر والأصفر والأزرق وتدرجاتها، وقد تستخدم خمسين درجة لونية في اللوحة الواحدة، معبّرة بذلك عن أجواء الصراع داخل الذات وخارجها.
وانطلاقًا من أن الصراع جزء أساسيّ من حياة الإنسان، خصصت الحياري له معرضًا بعنوان:(الصعود نحو الهبوط)، حضرت فيه ثيمة الخط المنحني على أسطح اللوحات في إحالة فلسفية إلى الدائرة المغلقة التي يعيش الإنسان في إطارها، صعودًا وهبوطًا، نجاحًا وإخفاقًا، سعادة وألمًا. وتوضح في هذا الجانب:(الخطوط المتوازية في العمل يمكن لها أن تكون السجن، كما يمكن للدائرة في اللوحة أن تمثل الكون، والدوائر المختلفة تجسد الانفجار الكوني).
النقطة والدائرة قادتا الفنانة التي نالت الجائزة الأولى لأفضل عمل فني في بينالي القاهرة الدولي العاشر (2006)، إلى التركيز على رسم الوجوه بألوان قوية وحارّة، لكن ما قدمته من وجوه يبتعد عن مفهوم البورترية المتعارف عليه، لأنّ الوجوه في تجربتها مشوَّهة، وأعضاء الجسد مقطَّعة وتتركب من قطع متناثرة، وهو ما عبّرت عنه في معرضها (وجوه ضد الحرب” (2015) الذي تضمّن لوحات لوجوه منكسرة وأجساد ممزَّقة وذوات تعاني التهميش والضياع. واستخدمت الحياري في تلك التجربة مزيجًا لونيًّا غنيًّا وطبقات لونية انفعالية وموتيفات وتشكيلات ذات دلالات قوية، واشتغلت على تفاصيل الوجه ومفرداته مستعينةً بدلالات الحروف وأشكالها، كما وظّفت النمط الزخرفي من خلال التشكيلات الهندسية الحادة، بخاصة في الوجوه التي تواجه المتلقي بتفاصيلها الكاملة مع ترك مساحات من البياض حول العينين. أما التشكيلات التي تُظهر نصف الوجه في اللوحة، فهي أقل حدّة مع استخدام الألوان الصريحة والحارة أو الاكتفاء باللونين الأبيض والأسود.
وكانت الحياري في سياق اشتباكها مع الحرف، قد خاضت تجربة لاستنطاق قصائد الشاعر البحريني قاسم حداد بصريًّا، وبخاصة (أيقظتني الساحرة)، باستخدام لغة اللون، وقدمت إلى جانب لوحاتها دفترًا فنيًا رسمته عبر تفاعلاتها مع قصائد حداد عكسَ تزاوُجَ الإحساس بين الفنان وحبر الشاعر وتأملاته.
وفي معرضها الذي حمل عنوان:(قطعة قطعة) (2018) عرضت الحياري لشخصيات أنثوية ترمز إلى المدن التي قُسمت إلى قطع صغيرة، وواصلت الفنانة في هذا المعرض تقديم أعمال تستند إلى النهج الذي بدأته في رسم الوجوه والأجساد عبر مفهوم التفكيك ثم إعادة التركيب، حيث تصوّر لوحاتها أجسادًا ووجوهًا مشظّاة، كأنه جرى تقطيعها ثم إعادة لصقها بطريقة مغايرة للمألوف، فالقدم فوق الرأس، والخصر مفصول عن الصدر، والرقبة لا يعلوها رأس. وبقدر ما تثير هذه التشكيلات من قلق وخوف في نفس المشاهد، فإنها تثير أسئلته وتشحذ ذهنه لقراءة الأفكار الكامنة فيما وراء اللون وتأمُّلها في نطاق أفق واسع من التأويلات.
وتكشف مجموعة من لوحات الحياري عنايةً خاصةً بالمرأة، إذ يلحظ المشاهد جمالًا في تكوين الرأس واتساع العينين، وفي ارتفاع الرقبة وشموخها، كما تَبرز الألوان الصارخة التي تزين الوجنتين والفم، كأنما الفنانة تريد بذلك أن تشير إلى صمود المرأة العربية وشموخها رغم ما تواجهه من ضغوط اجتماعية ومعاناة واضطهاد.
ويبدو جليًا حرص الحياري في لوحاتها خلال السنوات الأخيرة على مواكبة القضايا الراهنة والتعبير عن وجهة نظرها تجاهها، كما في لوحاتها المستلهمة من تجارب اللجوء الذين فرّوا من الصراعات الدائرة في دولهم وتوزّعوا في أصقاع الأرض.
وفي معرض (سرد)، الذي جمعها مع الفنان القطَري علي حسن (2020)، لجأت الحياري إلى الأسطورة، مازجةً إياها بمفردات الطبيعة في الصحراء، مع الحرص على وجود شخصيتين أساسيتين في كلّ لوحة (الرجل/ آدم، والمرأة/ حواء) بشكلّ تجريدي، وكان من المتوقَّع أن تُظهر اللوحات تأثرًا بالرموز والأساطير والتخطيطات البدائية القديمة للإنسان على جدران الكهوف والمعابد، وأن تحضر الألوان الصحراوية، خاصة البني بتدرّجاته، إلى جانب الحيوانات والنباتات الصبّارية والأشجار العطشة.