سامي بن محمد السيابي:
الخلق هو سلوك يظهر الباطن من المعتقد، سواء خير أم شر، وفي خيره تتجمّل علاقةالمسلم بربه، وعلاقته بأقاربه وصحبه والناس الذين يتعامل معهم، وسائر المخلوقات، والأخلاق والآداب أمانة إنسانية على من قال إنّ مصدرها الطباع البشرية السليمة، وهي إلزام إيماني عند جمهور المسلمين، عهدت إلينا قيادة ومنهجا منذ فشل قوم إبليس في منع سفك الدماء، وتذويب الإفساد.
* أهمية الخلق
يمتثل المسلم المحافظ على خلقه لأمر الله الذي:(يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل. 90)، ويقتدي بصاحب الخلق العظيم (صلى الله عليه وسلم)، ويأصّل بخلقه روابط المجتمع، وينال بذلك أفضل الدرجات، فالأسمى خلقا هو الأقرب منزلة إلى نبيه. والأخلاق هي القوة الفاعلة التي تدرّ معية القادر المحيط، قال تبارك وتعالى:(.. وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران. 120)، فالصبر والتقوى هما كوكبان لامعان في سماء الأخلاق.
طرق كسب الخلقبالإيمان تكتسب مكارم الأخلاق إذ الخلق ثمرته الوارفة، وبالاقتداء بالأنبياء والتأسي بسيد الأخلاق، وتدبر القرآن الذي يحوي جواهر الخلق، والتدريب المتواصل عليه، والرقي الدائم عروجا إلى القمم الأخلاقية النفيسة، وفي هذه السلسلة القويمة نغترف معا من معين الأخلاق أكرمها ومن رحيق الآداب أجملها، في ظلال (مكارم الأخلاق)، ولنبدأ بأول خلق كان سببا في تحمل راية الاستخلاف في أرض الله، ألا وهو خلق الأمانة.
* الأمانة سرّ الاستخلاف
قال الله تبارك وتعالى:(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب. 72)، فتلك العماليق العظام وهي (السماوات والأرض والجبال) استعطفت إلى خالقها بالإشفاق إدراكًا منها لثقل الأمانة المعرضة عليها وما يعقبها من مساءلة وهي (التكاليف وما يتبعها من مثوبة وعقوبة)، فأُلقي العبء بمثاقيله على مخلوق ضعيف هو الإنسان:(وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا)، فهل أدرك المبتلى بالنزوات النفسية من ظلم وجهل عواقبها؟ ليكون في مأمن من مغبة تركها.
وقيل: المقصود بالأمانة في الآية هي:(الدين والفرائض والحدود) عند قتادة، و(التكاليف الشرعية) عند ابن عباس، وعند البعض (أمانات الناس) .. وكلها تدخل في نفس المعنى بين عموم وخصوص. ونحن نعيش في زمن باتت الأمانة كالجمرة على اليد بين القبض والترك، مما يعوزنا إلى التأمل في هذا الخلق آملين من خلاله تقييم السلوك وتقويمه إلى الأفضل بحول الله وتوفيقه.
* مفهوم الأمانة
الأمانة ضد الخيانة، وهي حفظ الدين والدنيا، فحفظ الدين يتعلق بأداء الأركان الإسلامية والواجبات والطاعات، وحفظ الدنيا يتعلق فيما بين الناس من التزامات وودائع وتعاملات وحقوق .. وغيرها.
* ثمار الأمانة
وللأمانة ثمار مباركة عديدة، فهي من أعظم الصفات التي وصف الله بها عباده:(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون. 8)، لأنها سرّ الاستخلاف في الأرض، بها تدفع المفاسد وتجلب المصالح لعمارة الدنيا ومن فيها، فبالأمانة يبني المجتمع الآمن وتحفظ مرافق الوطن العامة والخاصة، وبها يذب عن حياضه، والذود عن شرفه وحفظ أسراره، والولاء لسلطانه وعدم التعدي لرموزه، وحفظ تراثه وصون حاضره والتقدم لأجل رقي مستقبله. ويكفي تحفيزا أنّ الأمانة جسر إلى الفردوس وأمان في الدنيا فقد وصف الله أصحاب الأمانة بأنهم هم الوارثون قال الله تعالى:(.. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون ـ 11).
* مظاهر الأمانة
وللأمانة مظاهر عديدة يمكن تخليصها في الأمور الآتية: (أ) الأمانة الدينية: بحفظ الفرائض والأخلاق والحقوق والمسارعة في أداء الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيصال الإسلام لغير المسلمين، والتذكير بالتقوى والهداية والنصح لله، (ب) الأمانة الاجتماعية: بحفظ الجوار والأعراض، والغيرة على الشرف، والمساهمة في حل المشكلات بالصلح، وصلة الرحم، ودفع الكرب عن الناس، ومواساتهم وإسعادهم، وتربية الأولاد وصون الزوج، وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف، (ج) الأمانة المهنية: بإتقانها ورفع كفاءة الإنتاج بسعر ووقت أقل، والالتزام بلوائح المؤسسة التي ينتمى إليها، وحفظ مرفقاتها وأدواتها والالتزام بمواعيد العمل.
* الرقابة الذاتية
الرقابة الدقيقة على الذات البشرية تحمل الوجه الآخر لعملة الأمانة، فهي تسليط الضمير الحيّ على مراعاة حقوق الله تعالى في خلقه، وعليه يتمحور التخطيط السليم والتنفيذ الأمين للمستقبل الواعد في تعدد المسؤوليات، روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه بات ليلةً مع عائشة على غير عادته، فكان القلق أخذ منه مأخذًا، فسألته عن سبب ذلك، فأخرج لها أوقية من ذهب من تحت مخدته، لم يجد لها مصرفا من ليلته، فخشي أن ينزل الله قدره قبل صرفها لمستحقيها، وقد أخذ الصحابة بزمام الأمانة على أكمل وجه وهم يرفلون في تأسيهم بطيب سيرة نبيهم الموصوف بعظمة أخلاقه في القرآن الكريم، وللتمثيل في ذلك روي أنه لما فتحت المدائن وأوتي للفاروق (رضي الله عنه) بجواهر القصور عبر تلك المسافات الشاسعة دون أن يتجرأ أحد جنوده على سرقة شيء منها، قال معلّقا على أمانتهم: إن من أتى بهذا لأمين، فأجابه علي (كرم الله وجهه): أمنتَ يا أمير المؤمنين فأمن الناس.
* نماذج رائعة
يحكى أن بستانيًا أمره سيده أن يجني له عنبًا من مزرعته التي يتعهدها بالسقي فأحضر له عنقودًا غضًّا فقال له سيده مندهشًا:تعمل في البستان مدّة كذا وما زلت لا تميّز الغض من الناضج، فأجاب البستاني الأمين: لم أذقه يوما حتى أميز حلوه من غضه، واتّصف العرب في جاهليتهم بالفخر في أداء خلق الأمانة وسائر الأخلاق التي ضبطها لهم هادي البشرية (عليه الصلاة والسلام)، وﻷجل الأمانة هُدد أحدهم أن يخون أمانته بذبح ابنه فاختار الأمانة فذُبح ابنه أمام عينيه ثم أنشد:
أمنت بأدرع الكندي إني
إذا ما خان أقوام أمنت
ختامًا قال الله تعالى وهو يأمرنا بأداء الأمانة:(إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء. 58)، فعسى أن تكون الأمانة حاضرة معنا في كل شيء، وهيترتسم في نصب أعيننا، وأعظم أمانة علينا تأديتها بحق هي تبليغ الدعوة الخيرة بالنصيحة الطيبة (بلغوا عني ولو آية) (رواه البخاري)، فالدعوة إلى الله أمانة على عاتق كل مسلم عاقل.
* موجّه تربوي
[email protected]