محمود عدلي الشريف:
إخوة الإيمان والتوحيد ..موعدنا مع الحلقة الأخيرة في هذه الرحلة المباركة، والتي اصطحبنا فيها هجرة رسول الله (صلوات ربي وسلامه وعليه) ..وكيف كانت قمة الحضارة والتقدم والرقي والسلام الإنساني وهو ما يدعيه البعض الآن، رغم أن رسولنا الكريم سبق هذه الدعوات منذ ظهور دعوته، بل تبين لنا الهجرة المباركة أعلى درجات الكمال الإنساني القديم والحديث والذي سبق كل العصور، سواء على المستوى الرسالي من جانب الصادق المعصوم (صلوات ربي وسلامه عليه) وهو نبي ورسول موحى إليه، أو على الجانب البشري في شخصه الكريم (عليه أفضل الصلاة وأكرم التسليم)، فقد أثبت لنا (عليه الصلاة والسلام) سمو أخلاقه وأصالة معدنه وعظيم صفاته، فقد كان يقدر أن ينتقم لنفسه أو أن يثأر لأصحابه الذين مات منهم البعض كياسر وزوجته سمية (رضي الله تعالى عنهما) على الرغم من أن الكفار لم يكونوا في سفه أو جهل أو حتى تخبط في آراء مختلفة، بل كانوا في منتهى التنظيم والاتفاق ونفاذ الأمر، فإنّ قالوا فعلواوكما ذكرت ـ آنفًا ـ أن العرب أنفسهم في عدائهم لدعوة الإسلام ودين الله قد استعملوا أعلى أساليب المعارضة لصد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والنيل منه وممن تبعه، والدراس المتأمل لما فعلوه يجد أنهم ـ رغم كفرهم وعنادهم ـ كان عندهم حضارة ولم يكونوا في تخلف حياتي، بكل كانوا في تخلف عقدي، فكونهم في تخلف عقدي فهذا لا يمنع أن يكون لديهم حضارة وتقدم حياتي، ولو تأملنا في عصرنا الحديث نجد هذه النماذج موجود بكثرة في عالمنا المعاصر، فهناك مجتمعات في منتهى الرقي والتقدم، بل ولها السبق في الأساليب التقنية الحديثة، ومع ذلك نجد أن هناك تخلف في الاعتقادفهل تتصور أن في عصرنا اليوم من يعبد أصنامًا أو أوثانًا أو غيرها، فلم يهديهم تقدمهم ورقيهم أن يهتدوا إلى توحيد الله الواحد الأحد، الذي أثبت العلم الحديث أنه إله واحد، رغم ما نحن فيه من تقدم في القرن الواحد والعشرين، وهذا ما يتفق مع الملحدين في كل عصر بل لو تأملنا قليلًا نجد أن العقل العربي القديم كان أقوى وأذكى من عقول متحضرة اليوم، فهذا العقول اليوم تجحد وجود خالقها، والعقل العربي السليم القديم اهتدى وحده إلى مولاه، (إن الإيمان بأن لهذا الكون خالقًا يدبر أمره في كل ذرة منه، يقود إلى أن للإنسان ربًّا يستحق منه العبادة والتقديس، فإنه لا يكون في العبادة حق لغير الخالق، فلا يكون ـ حينئذٍ ـ لمقولة الدهريين قبول، لأنها مجرد هراء قادت إليه أفكار شيطانية، فقالت الألسنة الشريرة:(لا إله، والحياة مادة، وإنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر)، وأصحاب هذه المقولات هاجت بهم جنون الأفكار حتى ألقتهم في جهنم وبئس المصير، وأكثر منهم عقلًا وإيمانًا ذلك الأعرابي حين سئل كيف عرفت ربك؟ فقال:(البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير؟) (الهادي والمهتدي، ص: 16).
كما اهتدى الإنسان العربي فوق ما توارثه من ملة خليل الله سيدنا إبراهيم (عليه السلام) إلى أخلاق سامية وشجاعة وكرم، وقد يعترض أحد طريق هذا القلم ليوقفه قائلًا: ولكن كان ينتشر بين العرب عكس ما سبق، فأقول له وبكل بساطة: وهل هذا العكس الذي تقصده اختفي في عصر أو مصر، أم أنه موجود في كل زمان ومكان، لاشك أنه موجود، ولكن ما أعنيه هو أن هناك حضارة عند العرب وقد كررت أن هذا لا ينفي كفرهم وعصيانهم لله ورسوله، كما ينبغي علينا أن لا نغفل الجانب الاجتماعيوالأخلاقي والإنساني والذي أقر الإسلام العرب عليه بل أقره وجعله من مضمونه،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:(قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ، فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِ؟ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ، إِذَا فَقُهُوا) (صحيح البخاري 4/140، برقم: 3353).
وفي شرح الحديث: قال العلماء: أصل الكرم كثرة الخير وقد جمع يوسف (عليه السلام) مكارم الأخلاق مع شرف النبوة مع شرف النسب وكونه نبيًا ابن ثلاثة أنبياء متناسلين أحدهم خليل الله (عليه السلام) وانضم إليه شرف علم الرؤيا وتمكنه فيه وسياسة الدنيا وملكها بالسيرة الجميلة وحياطته للرعية وعموم نفعه إياهم وشفقته عليهم وإنقاذه إياهم من تلك السنين (معادن العرب) أي: أصولها، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا: معناه أن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية إذا أسلموا وفقهوا فهم خيار الناس)(صحيح مسلم 4/ 1846).
وعودًا على بدء فقد كان العرب يعرفون صاحب القدم الذي سار في طريق وتركت قدمه أثرًا في تلك الطريق، أليس هذا تقدم بل هل وصل العلم الحديث اليوم إلى معرفة صاحب القدم الذي تركت أثرها على رمال مثلًا، وهذا ما فعلته قريش فعلًا في بحثهم عن رسول الله (صلىالله عليه وسلم ) وصاحبه، وقد نجحوا فعلًا (فلما فقدته قريش أتبعته بقائف معروف فقاف الأثر حتى وقف عند الغار، فقال: هنا انقطع الأثر) (جوامع السيرة، ط: العلمية، ص: 70).
وفى رواية:(أقبل فتيان من مشركي قريش من كل بطن رجل بعصيهم وسيوفهم ومعهم قائف من قافة بنى مدلج وهم المشهورون بالقيافة بين العرب فالتمسوا أثرهما فوجدوه وقصوه الى أن بلغ قرب جبل ثور ففقدوه هناك فقال القائف ما أدرى أين وضعا أقدامهما بعد هذا ولما دنوا من الغار قال القائف والله ما جاوز مطلوبكم من هذا الغار) (تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس 1/ 328).
وهذا ما سبقهم فيه رسول الله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ فقد قرأ أفكارهم وعرف مقاصدهم، الأمر الذي جعله ـ عليه الصلاة والسلام ـ يحتاط كل الاحتياط فقد (كان اتجاههما في أول الرحلة إلى الجنوب -في طريق اليمن- حتى تضل قريش وهي تقتفي أثرهما، وكان غار ثور أول محطة لهما، لكن ذلك لم يثن قريشًا عن ابتعاث فتيانها في كل اتجاه يطلبون الرسول حيًّا أو ميتًا، وكان منهم من اقترب من ذلك الغار) (النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام، ص: 216)،بل إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استخدم أفضل قفافي الأثر في العرب قاطبة، وذلك ليسبق العرب فيما يمكروه له ويفسد عليهم ما دبروه له ففي (الإصابة في تمييز الصحابة 5/ 576) :(مذكور في الصحيحين من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: دخل عليّ النبيّ ـ صلّى اللَّه عليه وآله وسلم ـ مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تر أنّ مجزّز المدلجي نظر ـ آنفًا ـ إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إنّ بعض هذه الأقدام من بعض)، وفي رواية ابن قتيبة: مرّ على زيد وأسامة وقد غطّيا رءوسهما وبدت أقدامهما، واحتمال أن يكون قال ما قال في حقّ زيد وأسامة قبل أن يسلم، واعتبر قوله لعدم معرفته بالقافة، لكن قرينة رضا النبي(صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) وقربه يدلّ على أنه اعتمد خبره.
وخلاصة الأمر أن الهجرة النبوية المباركة الدارس لها يدرك أنها مدرسة يتتلمذ عليها العالم كله سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بل هي مأدبة نهل من معينها وارتوى بفيضها كل عاقل وواع.
أيها الأحبة: ما ذكرت من هذه الرحلة ما هو إلا اجتهاد قليل لم يأتي إلا بما دلت عليه الهجرة من هذه الناحية التي أقصد من خلالها أن الحضارة في ديننا الحنيف، ورسولنا العظيم (عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم).
[email protected]*