مع تنامي الخلافات الدينية والأيديولوجية والعرقية التي تعتبر من أهم أسباب تحلل بعض المجتمعات المعاصرة، وفي منطقة حبلى بمثل تلك الخلافات، ومجتمع عماني يتطور بسرعة كبيرة كجزء بالمنطقة والعالم ودولة اتجهت نحو المؤسسات المنتخبة، وإعلام يتطور بسرعة متلحفا بآفاق التكنولوجيا، أصبح الوضع القائم بحاجة لوضع حدود بين حرية التعبير والاختلاف وبين الإساءة إلى الآخر، وفي محاولة لتوضيح الفارق بين حرية التعبير والإساءة للآخر، أصدر مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم كتابا بعنوان (الحدود بين حرية التعبير والإساءة إلى الآخر .. نحو ميثاق للتعايش السلمي والاحترام المتبادل في الثقافات المعاصرة) للمؤلف محمد بن سالم بن عبد الله الحارثي .
ويعتبر الكتاب محاولة متميزة من كاتب اتخذ الإطار البحثي الذي يعتمد على أسس البحث العلمي، من توضيح المفاهيم (لغويا ومعرفيا) وتطورها ونبذة تاريخية عن مكوناتها، وصولا لأشكالها العصرية وإشكاليتها، متخذا نماذج حية لقياس الرؤية والتطبيق، ورغم ما يعكسه ذلك من نمط تخصصي، إلا أن الكاتب استطاع بلورة عمل بسمة شعبية يستطيع غير المتخصص أن يستوعب ما في العمل من أفكار.
وفي طريق التبسيط دون إخلال، تسلح الكاتب بتفسير لغوي وآخر قيمي لأهم المصطلحات التي استخدمها في المؤلف لوضع خلفية معرفية لدى القارئ تمكنه من الاستيعاب السلس دون الحاجة للعودة لمراجع اخرى، توضح المفاهيم، أو لفهم مبتور للرسائل التي يرغب الكاتب في ايصالها للمتلقي، ولعل شعبوية موضوع المؤلف التي ابتغاها الكاتب منذ البداية هي التي فرضت عليه التبسيط الواضح، وذلك نظرا لاهمية الموضوع للمجتمع ككل بكافة طبقاته واطيافه وطوائفه، بل تتخطى الاهمية المجتمع المحلي، وتسبح في اطار المجتمعات الاقليمية التي تؤثر وتتأثر ببعضها، فالكتاب يحمل رسالة مفادها ان حرية التعبير، لابد ان ترتبط بضوابط معينة حتى لا تتحول لفوضى تساهم في تحلل المجتمعات.
ومن وجهة نظري فان اهم ما يتميز به (الحدود بين حرية التعبير والاساءة الى الآخر .. نحو ميثاق للتعايش السلمي والاحترام المتبادل في الثقافات المعاصرة) ، عما سبقه من محاولات تهتم بنفس الاطار ، هو التنوع في المصادر والتنوع في الافكار المطروحة ، التي اعتمد عليها الباحث في بحثه ، مع التمسك بالزوايا القانونية والشرعية كإطار عام لبلورة رؤية الكاتب، الا ان ذلك لم يؤثر على ثراء المؤلف المعرفي ، فالجانب الانساني حاضر وبقوة من خلال مراحل التطور لحرية التعبير ، كما انه يعتمد مجموعة من الاراء لعلماء من ثقافات متنوعة قد تكون متباينة، فالقارئ سيشعر بذلك من خلال دمج سلس أتقنه الباحث لأفكار فلسفية غربية وشرعية اسلامية ، كلها تصب بحرفية في بوتقة واحدة وهي تأصيل التباين بين حرية التعبير وتفريقه عن الإساءة للآخر.
ولعل ثاني نقاط التميز تصب في ان الكاتب قد اعتمد تحليل المفردات ، لتوصيل رسائل تجمع ولا تفرق ، فقد ابدع الكاتب في ربط حقوق الانسان العالمية بتحليل مفرداتها ، كما سبح في الفكرة والمعنى مبسطا دون اخلال تارة ، متمسكا بحرفية البحث العلمي تارة اخرى ، متخذا من مفاهيم تكوين الرأي والحوار ، مدخلا لسرد عناصر حرية التعبير للرأي التي لخصها في ثلاثة عناصر هي الايمان بالعقل المتحرر وارتفاع العصمة عن اي احد والتسامح؛ مما يعد مدخلا للتعددية ورفض قداسة الافكار والآراء الشخصية والقابلية للتعلم والتطور، وتصاعد المفهوم بعد ارساء العناصر نحو الوظيفة التي وضع من اجلها هذا النوع من الحريات، واجتهد الكاتب متخذا اراء العديد من العلماء في تلخيصها في أن حرية التعبير هي وسيلة للتعبير عن الذات متلحفة بالضمير الفردي ، وهي وسيلة لتقويم المجتمع وترشيده، ونرى هنا استخدام التمايز بين الفردي والمجتمع لتأصيل المفهوم البنيوي المتكامل.
ومن خلال العناصر والوظيفة توصل الكاتب الى ثلاثة أسس لحرية التعبير في عقيدة اي انسان وهي الاساس الفلسفي يعتمد على قدرة الانسان على اكتشاف امكانياته وتحقيق ذاته عن طريق التعبير الفردي، الذي فرقه الكاتب عن التعبير الجماعي (القانون). يأتي ثاني الأسس وهو الأساس الطبيعي الذي رأى الكاتب من خلال اراء فلسفية وفقهية انه حق طبيعي فالانسان كائن متكلم. ثم ذهب الكاتب نحو الأساس الثالث لحرية التعبير وهو الاساس النفعي ، ورأى ان حرية التعبير تحقق للانسان منافع عدة، انها وسيلة للتقدم واداة لاصلاح الحاكم وفرصة لتحقيق ذاتية الانسان، وبعد الاسس توجه الكاتب نحو لمحة تاريخية عن حرية الرأي وتطورها ، متجها لأسانيد قانونية وشرعية حول حق حرية التعبير ، وصولا لسرد واقع الحرية واستغلالها في الاساءة للاخر ، ليحدد مخرجا قانونيا وشرعيا لحدود حرية الرأي.
استمر الكاتب في محاولة لوضع حد فاصل وواضح بين حق الانسان في التعبير وبين حدود هذا الحق واستلهم من الشريعة الاسلامية والقوانين الوضعية وافكار الفلاسفة والمفكرين ضوابط محددة لحرية الرأي ، شارحا بشكل اكثر تفصيلا حدود الحرية معددها في ثمانية ضوابط ، بينها التوسط والاعتدال في كل شيء والالتزام بالمنهج العلمي والالتزام بقواعد المنطق والمسلمات العقلية وعدم مخالفة صحيح المنقول وصريح المعقول ، وعدم مخالفة ما هو معلوم من الدين بالضرورة وتحقيق الإخاء الوطني والعربي والاسلامي واحترام الاخر وصيانته ، واحترام الاديان.
وفي نهاية المؤلف وضح الكاتب ثمار حرية التعبير المنضبطة بقالب تفاعلي مدركا للتطورات التي تحدث في المجتمع ، مطالبا بحرية الابداع في حدود الضوابط مع حتمية الرقابة الذاتية ، ووضع فصل كامل عن الاعلام العماني ، مطالبا بمهنية تدرك ان الحرية مطلوبة لكن شريطة ان تكون في اطار الذوق العام ، مطالبا باقامة توازن بين حق النقد الموضوعي وما يقتضيه الحفاظ على المقومات الاساسية للمجتمع واحترام عمل مؤسسات الدولة ، كما شدد على حماية حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وصون اعراضهم.

إبراهيم بدوي