يحتاج فهم بعض أساليب العرب الخاصة في التعبير إلى وقوف على طبيعة حياتهم وتقاليدهم الاجتماعية ، فبغير هذه المعرفة قد يتعذر عليك تفسير ما يعرض لك من أشعارهم ، إذ كيف يمكن أن تفهم دعاء شاعر أو شاعرة لقوميهما بعدم الهلاك وقد ماتوا حقا ؟!!!
تقول تقاليدهم القديمة أنهم قد جروا على عادة من هذا النوع ، أي الدعاء للميت بأسلوب يفيد أنه حي ، ولهم في ذلك غرضان : أحدهما : أنهم يريدون بذلك استعظام موت الرجل الجليل ، وكأنهم لا يصدقون بموته ، وقد بين هذا المعنى زهير بن أبي سلمى بقوله:
يقولون : حصن ثم تأبى نفوسهم وكيف بحصن والجبال جنوح
ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل نجوم السماء والأديم صحيح
أراد أنهم يقولون: مات حصن ، ثم يستعظموا أن ينطقوا بذلك ، ويقولون : كيف يجوز أن يموت والجبال لم تنسف ، والنجوم لم تنكدر ، والقبور لم تخرج موتاها ، وجرم العالم صحيح ، لم يحدث فيه حادث ؟! فهذا أحد الغرضين .
والغرض الثاني: أنهم يريدون الدعاء له بأن يبقى ذكره ، ولا يذهب ؛ لأن بقاء ذكر الإنسان بعد موته بمنزلة حياته ، ألا ترى إلى قول الشاعر :
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم بأفعالنا إن الثناء هو الخُلْدُ
وقال آخر :
فإن تك أفنته الليالي فأوشكت فإن له ذكرا سيفني اللياليا
وقال أبو الطيب المتنبي في هذا المعنى فأحسن كل الإحسان :
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ما فاته ، وفضول العيش إشغال
وقد بين مالك بن الريب ما في هذا من المحال حين قال :
يقولون : لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
ولعل في مثل هذا الأسلوب ردا مقنعا على من يأخذون بظواهر الحقائق اللغوية المجردة ذاهبين إلى أن الأدب هو الأدب بصرف النظر عن الزمن ومؤثرات البيئة ، آخذين بمعطيات اللغة وحدها ، وكما هي أمامهم ، لا بصفتها مرآة تعكس أحوال الناس ، وراصدا حيا لمنازعهم وطبائعهم ، ومن لا يضع في حسبانه أمرا كهذا قد لا يحسن فهم اللغة وألفتها ، بل قد يكون كذلك الذي ألف أن يرى في بيئته نوعا معينا من الخبز يصنع على نحو خاص ، ثم يقرأ للشاعر بدر شاكر السياب قوله :
والبدر من خلف المباني رغيف

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]