على بساط التجارب التشكيلية العُمانية نلتقي مرة أخرى لنهمس في أذن القارئ الكريم بما تجود به خواطرنا تجاه عددٍ من التجارب الفنية الرائعة التي توجه أحاسيسنا ومشاعرنا بلذةٍ عبر الخيال والعاطفة وتستثير وتستنير فينا روح الإبداع وشيئاً من الخبرة الجمالية، فالفن دائماً ما يُنمي الإدراك لذواتنا فيخلق إحساساً يستجيب لأنواعٍ مختلفةٍ من التجربة التي تنشأ من سياقات العمل الفني المختزن لأفكار ومعان يمكن استخراجها عن طريق التأمل لأعمال الفنانين المبدعين في هذا الميدان. وقفتنا اليوم ستكون مع أحدث التجارب الفنية للتشكيلية العُمانية عالية الفارسية التي قدمت من خلالها فيضاً من اللوحات ونثرت حولها خُلاصة عطائها ضمن فلسفة صوفية تأثرت بها عبر قراءاتها المتكررة لكتب علماء الصوفية أمثال شمس التبريزي وجلال الدين الرومي والنووي والغزالي والعز بن عبدالسلام وابن عربي وغيرهم، إضافة إلى زيارتها إلى مدينة قونيا التركية ــ أو كونيا كما يحلو للبعض تسميتها ــ واطلاعها على أماكن تعبد الصوفيين هناك فاستشعرت هذه الفنانة من كل هذه القراءات والمشاهدات معناً أثر في نفسها جعلها تحاكي تجربتها الفنية التي أسمتها (تجليات) وهي المعنى الحقيقي للسلام مع النفس قبل أن يكون مع الآخر فالطريقة الصوفية تراها عالية تنقي النفس من الشوائب الدنيوية وترفعها عالياً في سماء أرحب حيث تفيض الروحانيات وتلتقي الكمالات فأعجبت الفنانة بفكرة التأمل لدى الصوفيين التي هي أيضاً رياضة فكرية تسمح لمزاولها أن يتخطى الفكر الذي تعود عليه إلى الغوص في حالات أعمق من الراحة والتبصر، والمعنى المجازي لديهم لهذه الحالة هو مراقبة النفس أو الروح وذلك بهدف السمو بها واكتساب المعرفة حولها وحول خالقها، لذا فإن المتتبع لتجارب عالية يلاحظ أنها استخدمت تشخيصاً تداخلياً في هذا الجانب من خلال رموزها الأنثوية وتحديق نسائها إلى عالم النفس والتأمل البعيد فتركت أعمالها انطباعات وقراءات نفسية ووجدانية لشخوصها وهن يرحلن بأبصارهن إلى عالم التجلي واللحظات الخفية الباعثة على الهدوء والسكينة والسلام مع النفس، فلم يكن الجمال الشكلي لديها هو مقياساً أولياً للرمز بل كان البحث في قيمة المحتوى الذي تحمله هذه الأشكال بين روحها هو أساس تجربتها. وبعد أن فككنا شفرة هذه الفنانة في هذه المرحلة فلنا أن نقيس كل الأعمال التي انضوت تحتها هذه التجربة لأنها ستأخذ ذواتنا إلى عوالم أكثراً تألقا ًوجمالاً بعد أن نقوم بالإسقاطات التي نلجأ إليها لنعقد حالة التقارب والتداخل بين موضوع اللوحة والمعاني التي تبوح بها من خلال أعمالها ذلك لأن عملية الإدراك الجمالي في اللوحة عادة ما تمرّ من الحس إلى الحدس إلى الشعور، لتحقق نتيجة معرفية خاصة ضمن منظومة العمل الإبداعي، ولا يمكن الاستعاضة عن اية واحدة من هذه المقومات على حساب الاخرى لان عملية الإدراك الجمالي تقوم وفق عملية تحليل وفهم العمل الإبداعي وربطه بدلالات ورموز عن طريق إثراءٍ للذات تدفع إلى انبثاقها نحو المطلق والخروج من مرحلة التأزم الذاتي التي مرّ بها الفنان عبر تأمله للموضوع الذي يود البوح عنه، وهذا التامل هو الذي يجعلنا نقفز به من المكان والزمان إلى حيث اللامحدود أو المطلق باعتباره عتبة أساسية للفهم والعبور نحو عوالم المنجز الفني التشكيلي في داخل اللوحة وهو الذي يقودنا إلى تحريك الشعور وإحساسنا بالمتعة وتذوقها وما تجلبه لنا من متعة المشاهدة ومتعة الفهم والمتعة الجمالية، فهذه (المتعة الجمالية) هي متعة لا موضوع لها، إنها تنشأ من خلال تلك الوحدة الخاصة بين ذات المتأمل والعمل الفني، وهذه المتعة الفنية ليست متعة من أجل موضوع معين خارج العمل الفني، بل هي متعة موجودة داخل العمل الفني. لذا فإننا عند تأملنا للعمل الماثل أمامنا والذي استجديته من باكورة أعمالها الفنية الغزيرة في هذه التجربة فإننا نلاحظ مباشرة حالة النظر والتفكر الهادئة التي ترمق هذه المرأة من خلالها العالم البعيد من نفسها في تأملٍ صادقٍ وتجلٍ عميقٍ مع النفس حيث لا يمكنك أن تلحظ الزاوية التي تسبح فيها عيناها لانها ببساطة لا تنظر للأشياء بل يسكن نظرها لروحها التي لا يمكن لمسها أو استشعارها بصرياً، وقد لعبت الألوان وهدوء درجاتها هي الأخرى دورها في استكمال أركان المعنى الفني لمقصود الفكرة، وقد تكون الدوائر الثلاث التي أظهرتها الفنانة في أعلى الجبهه هي أركان الدين فكما ورد في الدراسات حول هذه الطريقة التعبدية بأن الصوفية أو التصوف وفق الرؤية الإسلامية ليست مذهبًا، وإنما هي أحد أركان الدين الثلاثة (الإسلام، الإيمان، الإحسان)، فمثلما اهتم الفقه بتعاليم شريعة الإسلام، وعلم العقيدة بالإيمان، فإن التصوف اهتم بتحقيق مقام الإحسان (وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وهو منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به.
ختاماً أقول بأن الإنسان الذي يملك أفكاراً فإن هذا لا يخلق منه فناناً مبدعاً لذا فإنه لابد من التحام الشكل لتطويع الفكرة وتسييرهما في خدمة نجاح العمل لتصل الرسالة التي يود بعثها بمضمونها الفني والجمالي، وإن إمساك هذه الرؤية ليس بالمسألة الهينة فهناك بحث ومكابدة حقيقية لإخراج العمل إلى حيز الوجود ليضيف معنى ومبنى في مسيرة الفنان ويبقى حاضرا في ذهنية المتلقي لاينساه بإنتهاء وقت العرض. عموماً هذا ما خلُصت إليه أعمال الفنانة عالية الفارسية في رحلتها مع الشكل واللون محلياً ودولياً، تلك هي رحلة فنان مع أفكاره وتأملاته للحياة من حوله استطاعت أنامل ومشاعر مبدعة أن ترصدها بتعبيرية تجريدية فأبرزتها كصيرورة حياة، سيكون لها نصيب في حياة كل منا بشكل أو بآخر فقط إذا تأملناها بصدق وتعايشنا معها بإخلاص.

عبدالكريم الميمني
[email protected]