محمد بن سعيد الفطيسي:
إذا أردنا أن نكافح ظاهرة إجرامية ما بصورة فاعلة، خصوصا عندما تكون بحجم الظاهرة الإرهابية، وكذلك الرغبة في التعرف على أبرز التحديات التي تحيط بالسياسة الجنائية لجرائم الإرهاب، والحد من آثارها، وفهم أهم العقبات التي تواجهها، فإنه من الأفضل البدء بتحليلها تحليلا سليما ومنهجيا، وتفكيك عناصرها، ثم تركيبها من جديد بطريقة علمية ومنهجية، فالإرهاب وكما هو مشكلة أمنية عابرة للحدود الوطنية، فإنه كذلك ثمرة للظروف السياسية الوطنية والدولية.
حيث تمثل جرائم الإرهاب قضية غاية في الأهمية والجدلية في وسط هذا الخليط المتقلب من الأخطار والذي يميز البناء الأمني للنظام الدولي المعاصر، خصوصا في ظل تلك التطورات الهائلة والمتسارعة التي تجتاحه من كل حدب وصوب، وعلى رأسها التطورات التكنولوجية والثورة المعرفية والمعلوماتية، والتي يظهر أنها تمثل أبرز ملامح هذا النظام من جهة، وتشكل من جهة أخرى أهم المحفزات الدافعة إلى استفحال الفوضى وعدم الاستقرار واستشراء مختلف الجرائم.
حيث "يرى البعض أن جرائم الإرهاب هي الخطر الأمني المركزي في زماننا، ويؤكد آخرون أنها مصدر قلق ثانوي مقارنة بالخطر الأعظم المتمثل في الاحتباس الحراري أو الأوبئة، إضافة إلى ذلك يؤكد آخرون أن العنف الإرهابي يصعب مقارنته بالأشكال الأخرى من العنف الإجرامي أو السيل اليومي من حوادث المرور في الكثير من الدول الصناعية، فالإرهاب ظاهرة من ظواهر المنطقة الرمادية، شيء بين الجريمة والحرب، بين عنف الدولة والعنف التمردي، بين النزاع والعنف"( 1).
بناء على ذلك تواجه السياسة الجنائية لجرائم الإرهاب العديد من التحديات التي تحول دون قدرتها على تحقيق متطلبات العدالة الجنائية، وتوفير المناخ اللازم للاستقرار الأمني والإنساني، وذلك بسبب تلك التعقيدات والعقبات الأمنية والسياسية الوطنية والدولية، فمواجهة هذا النوع من الجرائم ليس له غير وسيلتين شائعتين وهما ما يطلق عليه بنموذج العدالة الجنائية الذي تمثله مجموعة تلك السياسات والتوجُّهات والتشريعات والمبادئ الجنائية المتعلقة بجرائم الإرهاب، الوسيلة الثانية وهي الحرب والمواجهة العسكرية مع الإرهاب والتنظيمات الإرهابية.
وبما أن "الإرهاب هو في الأساس شكل من أشكال السياسة العنيفة. يجب أن تكون الاستجابة لهذه الإشكالية كما يفترض سياسيةً وثقافية في المقام الأول: (وأمنية وعسكرية بالدرجة الثانية)، نظرًا إلى تركيز مكافحة التطرف العنيف على عوامل سياقية تتيح الإرهاب على المستوى الفردي والمجتمعي والاجتماعي، بإمكانها تغيير الظروف السياسية التي تسمح بالتعبئة العنيفة. أما مكافحة الإرهاب التقليدية فتفتقر إلى هذا البعد السياسي. وبإمكان نموذج مكافحة التطرف العنيف، إن تمّ حصره بمبدأ توجيهي، أن يشكّل مباشرةً الأساس لاستجابة استراتيجية جديدة شاملة للإرهاب"( 2) وهذه الكلمات هي رسالة إلى مختلف الأجهزة الأمنية العاملة في هذا المجال اقصد مكافحة الإرهاب.
وهو ما يؤكد أولوية وأسبقية الاهتمام بنموذج العدالة الجنائية قبل نموذج الحرب (3 )، وضرورة التركيز على تطوير وتأهيل السياسة الجنائية لمواكبة تطور وتسارع جرائم الإرهاب؛ لتجنب البديل الآخر وهو المواجهة العسكرية المباشرة والصدام مع الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، وهذا الأخير هو البديل الأخطر والأكثر كلفة بشرية ومادية.
كما "أصبحت الجرائم اليوم غير مقيدة بالمكان وغير مرتبطة بالزمان، (خصوصا تلك الجرائم الدولية أو العابرة للحدود القومية كجرائم الإرهاب) فهي وبسبب تطورها المذهل وتطور أساليب ارتكابها أفرزت تحديات ومخاطر جسيمة على كافة دول العالم، وأمام هذا التطور السريع في أساليب ارتكاب الجريمة، وازدياد خطر التنظيمات الإجرامية المنظمة الحالية، أصبح من المستعصي الوقوف في وجه تطور الجريمة باستعمال الأساليب التقليدية التي لا تقوى على مواجهتها، وأصبحت كافة دول المعمورة مطالبة بالتفكير في رسم أطر سياسة جنائية وأمنية جديدة تكون قادرة على المواجهة الفاعلة والكافية للتطور الحالي للجريمة، وذلك بإعداد سياسات أمنية وأساليب منعية، وطرق مواجهة تتجاوب سريعًا مع هذا التطور الحاصل في مستوى الجريمة الإرهابية"(4 ).
على ضوء ذلك، فإن التحديات التي تواجهها السياسة الجنائية لجرائم الإرهاب باعتبارها امتدادا للعدالة الجنائية ستكون بكل تأكيد انعكاسا لمدى تعقيد البيئة السياسية والأمنية الدولية الراهنة، سواء كان ذلك بسبب التطورات التكنولوجية المتسارعة أو الخبرة العملية الإجرامية المتراكمة، أو بفضل تطور التقانة والأدوات المستعملة في ارتكاب جرائم الإرهاب الحديث (5 ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع
1 ـ رونالد كريلينستن، مكافحة الإرهاب، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، دراسات مترجمة، رقم (44) ترجمة: أحمد التيجاني، أبو ظبي / الإمارات، ط1 / 2011م
2 ـ وليام برانيف، من مكافحة التطرف العنيف إلى "منع الإرهاب": تقييم السياسات الأميركية الجديدة، منشور بموقع معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط، تاريخ النشر: نوفمبر 2017، تاريخ الدخول: 24 أكتوبر 2019م
3 ـ راجع حول هذا الموضوع: محمد بن سعيد الفطيسي، مكافحة الإرهاب بين انموذج العدالة الجنائية وانموذج الحرب، مجلة الباحث الأكاديمي في العلوم القانونية والسياسية، ع(4)، مارس/ 2020م، ص
4 ـ السياسة الجنائية والأمنية المعاصرة لمواجهة تطور الجريمة، المؤتمر العلمي السنوي الدولي الثامن لأكاديمية شرطة دبي بالتعاون مع جامعة القاهرة، كلية الحقوق، مصر/ القاهرة، من 29 / 3 -31 /3 -2016م
5 ـ ل.أ.ح. محمود ضياء الدين عيسى، التنظيمات الإرهابية في الدول العربية وإجراءات مواجهتها، دورية آفاق عربية، الأمن العربي، وزارة الثقافة والإعلام العراقية، ع1 / مارس 2017م