ربما فقد الشعر مكانته كوسيط دبلوماسي بين الشعراء

مسقط ـ العمانية:
يزخر الأدب الشعري العُماني بروائع متنوّعة في واقع طرحه للمتلقي، وهذا ما اتّخذه أدباء وعلماء وفقهاء عُمان أيضًا منذ أمدٍ بعيد، فقد لا تكاد تخلو مراسلات علمية فقهية إلا وكانت بأسلوب شعري نُظّم بأسلوب مُحكم ومُتقن في الوقت ذاته، فالمراسلات الفقهية والعلمية بين علماء وأدباء عُمان ضمن سياق تلك المنظومة الشعرية، إلا أنّه في العهد القريب نستطيع القول: إنّ تلك المنظومة اختفت وبشكل كبير وقد تكون لأسباب فنّيّة متعلّقة بالشعر ذاته. وهنا نطرح عددًا من التساؤلات في هذا الشأن، أولها: إلى ماذا يعود اختفاء هذا النوع من الشعر؟ وهل ثمة علاقة بين هذا الاختفاء واتجاه الشعراء لممارسة نمط الشعر الحديث بما في ذلك التفعيلة والنثر؟.
يقول الشاعر الدكتور هلال بن محمود البريدي في هذا السياق: شيوع فن المراسلات الفقهية الشعرية عند العُمانيين منذ القديم، يدل دلالة قاطعة على المكانة التي تبوأها الفقهاء في عُمان سياسيًا واجتماعيًا، إذ هم أساس ما يُعرف بأهل الحل والعقد، وكانت للفقهاء العُمانيين منزلة كبيرة مهمّة في المنظومة السياسية والاجتماعية والأدبية.
وقد أثرت بعض المعايير الفقهية والدينية في نظرتهم الفنية لجودة الشعر أو رداءته، فالشعراء هم أنفسهم إما فقهاء، أو نشأوا في أسرة فقهية، وقلّما نجد عند العُمانيين قديمًا شاعرًا يخرج من هذا النطاق، بخلاف الحال عند بقية العرب، فالأخطل والفرزدق وجرير وبشار بن برد وأبو نواس، كانوا شعراء بالدرجة الأولى، ولم يعيروا الفقه والمعايير الدينية الشائعة عند فقهاء زمانهم الاعتبار الذي أولاه الشعراء العُمانيون.
ولذا فمن الطبيعي أن نجد مزاوجة بين الفقه والشعر، فنشأت المطارحات الفقهية بمسحة أدبية شعرية، عادة ما تنقسم لقسمين، المقدمة: وهي التي نجد فيها حضورًا أقوى للعناصر الفنية الأدبية، لا سيما اللغة، والعاطفة، والخيال، هذه المقدمات تميل أحيانًا لغرض الاخوانيات أو المدح، أو الغزل والنسيب.
والقسم الثاني: السؤال الفقهي، أو الجواب الفقهي، وحينها فنحن بإزاء نظم لا شعر، إذ لا نكاد نعثر هنا على العاطفة والصورة الشعرية، بل بحث علمي فقهي بوزن وقافية، وليس بالضرورة أن يكون هذا الفن سؤالاً أو جوابًا فقهيًا، فقد يؤلّف الشاعر قصيدة تزاوج بين المقدمة الشعرية، والمنظومة الفقهية في القصيدة الواحدة، كما هو الحال عند ابن النظر، أعلم الشعراء، وأشعر العلماء.
أما في العصر الحديث فقد بدأت تخفُت هذه الظاهرة الفريدة التي زاوجت بين الفقه والشعر فلم يعد للفقهاء ذلك الحضور القوي سياسيًا واجتماعيًا، وضعفت المعايير الفقهية والدينية أو كادت تختفي تمامًا في النظر إلى جودة الشعر أو رداءته، كما كان للحداثة تأثيرها في جلب كثير من الاتجاهات النقدية والمدارس الشعرية الحديثة التي أثرت في مسيرة الشعر العُماني المعاصر.
الشاعرة شميسة النعمانية لها رؤية خاصة في اختفاء شعر المراسلات، وما إذا كان ثمة علاقة بين هذا الاختفاء واتجاه الشعراء لممارسة نمط الشعر الحديث وهنا توضح بقولها: أحد أهم مظاهر الحياة هو التغيُّر والتبدُّل ضمن سيرورة الزمن، فلا تدوم الأشياء على ما كانت عليه، والشعر أو النُظم الفقهي عبر أسلوب المراسلات إحدى القضايا التي ترك الزمن بها أثرًا واضحًا، وهو دفعُها نحو الضمور وربما التلاشي، والأسباب خلف ذلك كثيرة، أهمها انقضاء الحاجة إلى المراسلة بالطريقة التقليدية في أي مسألة كانت، ولعل تلك الطريقة من التراسل أورثت معها أن يكون الحوار الفقهي وفق الشعر أو النُظم، أما وقد تبدّلت وسائل التواصل وأضحت أكثر سهولة فإنّه لم يعُد ثمة تقليد يتم اتّباعه بأن تكون المراسلة بنسق شعريّ، إضافة إلى أنّ وتيرة الحياة ذاتها ازدادت سرعة وازدحمت بكثير من المشتتات، وتحويل المسألة الفقهية إلى أسلوب شعري أمر يقتضي امتلاك وقت كافٍ لذلك، بينما أنْ تذهب المسألة بجملة نثرية وفي وسيلة حديثة أنسب للفقهي نفسه من أن ينفق وقته في تأليفها شعرًا أو نظمًا، لا سيما في زمن لم يعُد هذا الأسلوب فيه شائعًا ولم يَعُد ميزة كالسابق.
وفي الإطار ذاته تُضيف النعمانية: من الأسباب أيضًا أنّ الشعر ذاته تطوَّر ونما ولم يعُد مقتصرًا على المدرسة العمودية، ولم يعُد يطرح القضايا بالأسلوب التقليدي الذي ظلّ قرونًا مُحكِمًا قبضته على الشعر، فظهرت المدارس الكتابية الأخرى مثل التفعيلة التي أشاعت معها مواضيع جديدة وأنماط كتابية مختلفة وأسس تعبيرية وبنائية متجددة، بل وأسلوب نقدي مبني على معايير إما إضافية أو جديدة كليًا.
وفقًا لما سبق فإنّ اختفاء هذا النوع من الشعر/ النظم ليس أمرًا صادمًا وإنما استجابة لتطوُّرات الحياة وتجدد الزمن. للشاعر فهد بن سيف المنذري حديث يفسّر اختفاء شعر المراسلات، ويبيّن أيضًا ما إذا ثمة علاقة بين هذا الاختفاء واتجاه الشعراء لممارسة نمط الشعر الحديث بما في ذلك التفعيلة والنثر، ويؤكد بقوله: هذا النمط الشعري يُعرف بالنظم التعليمي، والفقه في إطار الأدب، وشعر الأسئلة والجوابات، وقد ازدهر في حقبة كانت تتسم بخصوصية العلاقة بين الشيخ ومريديه من الطلبة، حيث كان الواسطة الثقافية الأبرز إن لم تكُن الأوحد في الساحة حينها، قبل أن تتأثر القرائح برياح التغيير القادمة من حواضر الثقافة العربية، أو بالتيارات الحداثية ومدارسها الأدبية المختلفة، ولم يكُن الغرض العام من ذلك النمط التقليدي إبراز الفنيات الشعرية، والتفنن في إحكام ثيمات النص الشعري بأدوات التحليق والشاعرية، إذ كان الإثراء العلمي والمعلومة الغائبة محور اهتمامه وعنايته، لذا لم يكتب له الحضور في حياتنا الثقافية المعاصرة عدا ما يُتداول في قاعات الدرس وساحات التواصل الحديثة بين فئات مخصوصة، إنها إذن ثورة العصر فرضت نفسها على اختيارات الأديب والمثقف، ويجب أن نكون واعين في التعاطي معها، ولكل زمان دولة ورجال.
وللشاعرة والكاتبة بدرية البّدرية قول أكثر وضوحًا في شأن اختفاء شعر المراسلات، وما إذا ثمة علاقة بين هذا الاختفاء واتجاه الشعراء لممارسة نمط الشعر الحديث بما في ذلك التفعيلة والنثر، وهنا تُجيب بحديثها: برأيي أنّ المراسلات الشعرية لم تختفِ، ولكنها لم تعُد تُكتب ورقيًا، وهذا سِر عدم انتشارها، فالمراسلات سابقًا كانت ورقية؛ لذلك تظل محفوظة، مما يتيح نشرها سواء في حياة الشاعر أو بعد رحيله، وغالبًا يتم نشر هذه المراسلات من قِبل المهتمين بهذا الإرث، وليس من قِبل الشعراء أنفسهم، أما الآن فأغلب المراسلات تتم عبر وسائل التواصل الاجتماعي المعروفة لدينا، ونجد أحيانًا أحد الشعراء ينشر مراسلة بينه وبين شاعر آخر، ولكن أغلب المراسلات لا تُنشر، وأهم سبب برأيي لذلك هو التجويد والانتقائية، فليس كل ما يُكتب يُنشر، وأقصد بالنشر هنا التوثيق في ديوان مثلاً، بل يختار الشاعر ما يجد أنّه الأنسب ليُمثّل إرثه الشعري، وشخصيًا أجدني أميل إلى هذا التوجّه.
وتُؤكد البدريّة بقولها: نحن في زمن متسارع، وهذا التسارع الزمني لا يسبب فقدان المراسلات الشعرية فحسب، بل الكثير من الكتابات التي ننشرها في مواقع التواصل الاجتماعي، ثم ننساها، وكأنها لم تكُن، فالمشكلة ليست في الكتابة بحد ذاتها، بل في التوثيق، لذلك لا تستغرب إنْ وَجَدَ ورثتنا الكثير من القصائد المبتورة، وتلك التي لم يُكتب لها الاكتمال، أو حتى لم يجدوا لنا إرثًا، لأنّ إرثنا مُخبأ خلف رقم سري.
أما فيما يخص التطوُّرات التي جرت في الشعر، بما في ذلك شعر التفعيلة، والنثر، فلا أظن بأنّ لها دور في الأمر، إذ يمكن التطوير في المراسلات، أو السجالات الشعرية حتى في هذا النوع من الشعر.
وللشاعر إبراهيم السوطي رأي حول اختفاء شعر المراسلات، وما إذا ثمة علاقة بين هذا الاختفاء واتجاه الشعراء لممارسة نمط الشعر الحديث بما في ذلك التفعيلة والنثر، باعتباره صاحب تجربة في هذا النوع من الشعر، حيث يُشير إلى أنّ تجربته في شعر المراسلات لم تكُن عميقة بحسب تقديره، بقدر ما كانت محاولات متعددة لم تتجاوز حدود الدردشات السريعة حيث كانت مكوَّنة عادة من بيتين أو ثلاثة على وسائل التواصل الاجتماعي، مُستثنيًا منها رسالة شعرية ورقية تضمّنت سؤالين فقهيين بعثتها من مسقط إلى الشيخ الشاعر علي بن محسن السوطي ـ رحمة الله عليه ـ في ولاية دماء والطائيين بقرية سوط، ولم أحتفظ بهذه التجربة ولم أعُد أتذكّر شيئًا من تلك الرسالة الشعرية غير أنني تفاجأت بوجودها في ديوان الشيخ الجزء الأول.
ويقول السوطي أيضًا: لقد اعتدنا منذ القِدم على المراسلات الشعرية أنْ تكون بين سائل وعالم أو شيخ مسؤول، أو بين شيخين ولا أستبعد سوى ذلك ولكن لا أظنه بذات القدر، وهي التي كانت تُسام بالمساجلات الشعرية والتي في ظني من النادر أن ترقى لتُسمّى شعرًا بخلاف تلك التي قد تحدث بين شاعرين يتسامران متساجليْن أو كالذي يتم أثناء ممارسات الفنون الشعبية كـ (الرزحة) .. وغيرها، وهذا ما شهدناه كثيرًا وما زال حاضرًا ولكنه أيضًا لا يكون بذات الشكل السابق وهذا في ظني يرجع لأسباب عديدة، منها ربما فَقَدَ الشعر مكانته كوسيط دبلوماسي بعد أن كان جليس الأمراء ولسان العرب في ما بينهم وحتى أنه فارسٌ أهمية حضوره شاعرًا كأهمية حضوره محاربًا فلم يعُد الشعر طريقة التخاطب المرغوب فيها، فبعد تطوُّر الشعر وظهور قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر أعتقد أن الشعر في نظر الجمهور من الناس أصبح ذلك الرجل الذي كبُر وشاخ ولم يعُد يعيش في زمانه وهو الآن في انتظار موته، بيد أنّه إذا مات الشعر فلا أظن أن المخاطبات بالرواية ـ وهي المتصدرة في الوقت الراهن ـ أو القصة القصيرة يمكن أن تحل محل الشعر. ويواصل السوطي قوله: لقد فَقَدَ هذا النوع من كتابات الشعر سلطته وهذه لها ما لها وما عليها، فكتابة قصيدة شعرية بقصد السؤال أو الدردشة سوف تكون على الأرجح سطحية جدًا وتكون القصيدة أقرب ما تكون إلى المنظومة أو الأرجوزة ولدينا الكثير من الشواهد على هذه المنظومات البعيدة كل البُعد عن الشعر كألفية ابن مالك ومنظومة أنوار العقول لنور الدين السالمي وسلاسل الذهب للشيخ محمد البطاشي، وهذه قد تكون دلالة على كون الشعر طريقة معتمدة للتوثيق إلا أنها تقذف بالشاعر بعيدًا عن الشعر وإذا ما حدث الإدمان على كتابة هذا النوع فهذا يعني في ظني جفاف الشعر ونضوبه وسوف يتوقف الشاعر ويصبح بُركةً راكدة بدلاً من ذلك النهر المتجدد في جريانه، وهنا أرى أنه كان إما على الشاعر أن يستمر لتكون المراسلات الشعرية فنًا مستقلاً أو شكلاً آخر للشعر، أو عليه أن يتوقف ويوقف القصيدة الخالية من الشعر.