د. محمد المعموري:
ستبقى تجربة المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس (رحمه الله) في إرساء السياسة العمانية الداخلية والخارجية وتحديد معالمها، مدرسة وحيدة منفردة ومتفردة في عالم السياسة العالمية؛ كونها السياسة الوحيدة التي كانت تتسم بالصدق والشفافية والحياد في سلطنة عمان أو في المحيط الإقليمي أو حتى المحيط العالمي، وما صاحب إرساء تلك السياسة من تحديات جعلت العالم العربي ينقسم إلى تحالفات، وأصبح العالم في تلك الفترة في حالة عدم استقرار خصوصا منطقة الخليج العربي، والأصعب أن سلطنة عمان كانت المنفذ الرئيس بالنسبة للخليج العربي؛ كونها تقع على مضيق هرمز من الشمال ويحدها بحر العرب من الجنوب، وكلا الممرَّين هما الأخطر على الخريطة الدولية.
كان جلالة السلطان قابوس (رحمه الله) رافضا لأي تحالف يرجح كفة على كفة أو يعين دولة على دولة أو يقف مع تيار ضد تيار، وكانت سياسة السلطنة منذ البَدْء مبنية على استقلالية القرار، كما كانت سياسة السلطنة عدم المشاركة في مقاطعة أي دولة عربية، ورفض الموافقة على القرارات التي تصدرها (القمم العربية) بهذا الخصوص ومنها "قمة بغداد" التي بموجبها تم مقاطعة جمهورية مصر العربية بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى تل أبيب وما أعقبها من اتفاقيات، وكذلك رفض وبشكل قاطع مقاطعة دولة قطر بعد أن قاطعتها أغلب الدول الخليجية المنتمية إلى مجلس التعاون الخليجي وسلطنة عمان عضو فيه، وكذلك رفض الاشتراك في الحرب التي شنَّها التحالف العربي على اليمن، فكانت عُمان يد العون للشعب اليمني في إيواء ومعالجة المصابين من اليمنيِّين بسبب الحرب التي خلَّفت الجوع والمرض، ناهيك عن قتل الآلاف منهم نتيجة تلك الحرب وما آلت إليه من مصائب وتركت وراءها الضحايا، وخلَّفت البطالة والفقر، ودمَّرت المنازل والمرافق والخدمات والبنية الأساسية.
قلنا إن سياسة جلالة السلطان قابوس (رحمه الله) كانت القدوة التي لم ينتهج منهجها لحد الآن أي من الحكام العرب؛ لأن حكمة السلطان قابوس غائبة عنهم ولا تتوافر فيهم ولهم، كما أنه يتسم بالإنسانية المسالمة والخيّرة التي تنشد السلام والوئام، وهو خبير بالمنطقة العربية عامة والخليجية خاصة، وعايش حروبها وصراعاتها في القرن العشرين منذ حرب 1948 مع الكيان الصهيوني وهو لم يتجاوز الثماني سنوات من العمر، وحرب 1967 مع نفس العدو وكان في ريعان شبابه، وحرب 1973 مع كيان الاحتلال الإسرائيلي وهو في بدايات تولّيه الحكم لقيادة سلطنة عمان ـ سلطنة الحكمة والسلام ـ، مرورًا بالحرب بين العراق وإيران عام 1980 وكلتا الدولتين تربطهما مع السلطنة علاقات أخوية تاريخية وطيدة، ولكن السلطان قابوس لم يكن يميل إلى دولة على حساب دولة أخرى، بل كان يسعى لإيقاف تلك الحرب الطاحنة، وطيلة الثماني سنوات وهو عمر تلك الحرب كانت عُمان ضمن منطقة الخطر في تلك الفترة، إلَّا أن جلالة السلطان قابوس (رحمه الله) عرف كيف ينأى ببلاده ويدفعها نحو التقدم وبناء الاقتصاد والتعليم، وتوفير الخدمات الصحية، وتحقيق العدالة لكافة أفراد الشعب في السلطنة دون أن تؤثر تلك الحرب على مسيرة تطور السلطنة، وكانت المنطقة على فوهة بركان يمكن أن ينفجر في أية لحظة، وفعلا انفجر البركان عام 1991 بغزو العراق للكويت وتدخل الدول كافة لمعالجة هذا الخطب، وهو ما سمي بحرب الخليج الأولى، إلَّا أن جلالة السلطان قابوس بحكمته وسياسته المتفردة حاول ونجح في إبعاد بلاده من تأثير تلك الحرب التي كان مركزها الخليج العربي، كما سعى إلى نزع فتيل تلك الأزمة وطالب بعدم تدخل الدول الأجنبية ووجوب حل الأزمة عربيا، لكن كانت هناك أطراف عربية ودولية تدفع نحو التدخل العسكري وعدم إعطاء الفرصة للحل السلمي.
استمرت السلطنة بمنهجها المتفرد، وسياستها التي انفرد في إرساء "فكرها الدبلوماسي" رجل يحمل كل المبادئ والقِيَم الإنسانية، هدفه أن تكون السلطنة فريدة بتجربتها توجِّه بوصلة العالم نحو السلام والوئام والتعايش والمحبة.
وبعد خمسة عقود من التحدِّي تبيَّنت معالم السياسة العمانية من خلال النهضة النوعية في المجتمع العماني، التي تمثلت بالبناء والعمران والتطور والعيش في سلام وأمن وأمان، وأصبحت سلطنة عمان في عقود بسيطة توازي بتنظيمها وقوانينها الدول المتقدمة في العالم.
عندما كنت أسافر إلى لندن كنت ألمس حس هذا القائد وأنا أنزل في مطار (هيثرو) وأرى تشابه الرؤى بين مطار (هيثرو) ومطار مسقط... وقفت حينها وقلت مع نفسي بالتأكيد وقف هنا جلالة السلطان قابوس (رحمه الله) في هذا المطار، ووضع نصب عينيه أن عُمان ستكون هي الأجمل من كل جميل في العالم وقد فعل.
نعم جلالة السلطان قابوس بنى دولةً وسياسةً وعالمًا متفردًا ومنفردًا، متميزًا ومميزًا أرسى دعائم هذه الدولة وقواعدها الثابتة والراسخة رسوخ الجبال بإخلاصه وحبه لبلده وشعبه، فاستطاع في فترة قصيرة أن يبني شعبًا ناضجًا مثقفًا متعلمًا وواعيًا بقضاياه وأهدافه وقضايا أُمته، ومن خلال هذا الشعب استطاع جلالة السلطان قابوس (رحمه الله) أن يبني وطنًا يشار إليه بالبنان في التحضر والتقدم والسلام والأمان، فأوجد نموذج حكم متفرد ومتميز لم يتحقق في العالم، وليس غريبًا أن يكون جلالة السلطان قابوس (رحمه الله) الحاكم الوحيد الذي يحبه كل شعبه بلا استثناء، وهو الحاكم الوحيد الذي لا يوجد له عدو أو حاقد في العالم، هو القائد الوحيد الذي زرع المحبة والألفة بين أبناء شعبه وجمعهم على كلمة واحدة وصف واحد وأخوة واحدة بعد أن كانت الخلافات تفرقهم، وعلى هدف واحد هو حب عُمان وبناء دولة عصرية، إنها السياسة الحكيمة التي تبنَّاها جلالة السلطان قابوس (رحمه الله).
رحم الله جلالة السلطان قابوس، وحفظ سلطنة عمان شعبًا وقيادةً وأرضًا؛ فهي واحة العرب الآمنة في أرض الله.