د. جمال عبد العزيز أحمد:
سبق أن عرضنا لموضوع العدول النحوي، وبيّنا كيف كان هذا الميل أو الانحراف عن أصل القاعدة، والورود على غير وفاقها ـ مدخلًا مباشرًا في بيان بلاغة، وكمال، وجمال النص القرآني ـ وبينا في بعض النماذج كيف كان توظيف العدول دلاليًا، وكيف أتى متناغمًا مع السياق، والمرمى والهدف الذي سيق من أجله، وقلنا: إن القرآن (اعتدالًا وعدولًا) معجز فيما يرمي إليه، فإعجازه ناشئ في وفاق القاعدة، وكذا في العدول، أو الانحراف عنها؛ لأنه لا يميل عن القاعدة إلا لغرض يهدف إليه، ويعرج عليه، لا ليخالف القاعدة لأجل المخالفة، ولا يخرج على الأصل بهدف الخروج عليه فقط، كيف، وهو الذي حافظ على القواعد النحوية والصرفية، وأبقاها صامدة، شامخة؟!، وسيبقيها كذلك إلى ما شاء الله لها أن تبقى.
واليوم نأخذ نماذج للعدول الصرفي فيها نوازن بين العدولين:(النحوي والصرفي)؛ لنرى أن القرآن في كل عدول قد بلغ القمة في البيان، وتغيا الكمال في المجيء على خلاف القاعدة، لهدف يرمي إليه، وغاية دلالية، وقيمة تربوية، ومعان إيمانية يتغياها، ويقصد إليها قصدًا مباشرًا،يقول الله تعالىفي سورة المجادلة، الآية (19):(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، يقول الإمام ابن كثير في تفسيره:(استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) أي: استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله عز وجل، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه، ولهذا قال أبو داود :حدثنا أحمد بن يونس، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، عن أبي الدرداء، قال:سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول:(ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية)، قال زائدة : قال السائب: يعني الصلاة في الجماعة،ثم قال تعالى:(أولئك حزب الشيطان) يعني: الذين استحوذ عليهم الشيطان، فأنساهم ذكر الله، ثم قال تعالى:(ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون).
هذا يعني أن الشيطان تملَّكهم، وساقهم وفق ما يريد، وكأنه ألغى عقولهم، فصاروا ألعوبة في يديه، يعبث بهم كيف يشاء، دونما تأبٍّ منهم، أو رفض، أو مناقشة، أو تفكير في مناقشة، فمضوا كأنهم سكارى، لا يفكِّرون، ولا يدقِّقون، بل لا يستطيعون الرفض، ولا يمكنهم التأبِّي أوالاحتجاج، ومضوا مَسُوقين نحو الهلاك، والغواية، والنهاية الأليمة، المحتومة التي يستحقونها.
والجدير بالذكر حتى نفهم قضية العدول الصرفي هنا أن لها مدخلًا في علم الصرف وهو أن القاعدة الصرفية (في باب الإعلال والإبدال) تنص على أن:(الواو أو الياء إذا تحركتا، وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفا، سواء أكان التحرك والانفتاح في صورة واحدة في الكلمة، أم كان التحرك في صورة لها، والانفتاح في صورة أخر.، كما في مجال ومقال ومنال، وكما في استحاذ واستقال واستمال، وأقام ونحوها).
فمثال الأول الفعل (التحرك وانفتاح ما قبله في كلمة واحدة) الفعل (قال)، حيث إن أصله (قَوَلَ) بفتحات ثلاث، بوزن (فَعَلَ) لأن مضارعه واويٌّ، وهو:(يَقُولُ)، فكلمة (قال) أصلها (قَوَلَ) بفتحة فوق الواو، وفوق القاف كذلك قبلها، نقول في التحليل الصرفي للكلمة: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصارت (قال) بوزن (فَعَلَ)، وهو ما نسمِّيه الإعلالَ بالقلب، وهو تغيير لا يتأثر به الميزان الصرفي، ويحدث في كلِّفعل ماض أجوفَ (واويًّا كان أم يائيًّا)، ومثال اليائي الفعل (باع)، فأصله (بَيَعَ) بفتحات ثلاث؛ لأنه من (باع يبيع بيعًا)، فـ(باع) أصله (بَيَعَ) بوزن (فَعَلَ)، نقول في تحليله الصرفي:تحركت الياء، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا (يحدث إعلال بالقلب، ولا يتأثر به الميزان كذلك)، وهكذا في نحو:(مات، وصال، وحال، وجال، وعاد، وصان)، (وهذه أفعال واوية العين)، وفي نحو:(جاء، وسال، ومال، وسار، وهال التراب،وشاد، وماد)، (وهذه يائية العين)، وكذا الفعل الناقص الواوي، نحو:(شَدَا، وعَدَا، وهَجَا، وغَزَا، وسَلَا)، حدث فيها كلها إعلال بالقلب، فأصل الأفعال هو:(شَدَوَ، عَدَوَ، هَجَوَ، غَزَوَ، سَلَوَ)، تحركت فيها الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا(حدث إعلال بالقلب، ولا يتأثر به الميزان الصرفي)، ومثال الفعل الناقص اليائي، نحو:(جَرَى، وسَرَى،وقَضَى، ومَشَى،عَوَى)، حيث حدث فيها كذلك إعلال بالقلب، فأصلها:(جَرَيَ،وسَرَيَ، وقَضَيَ، ومَشَيَ، وعَوَيَ)هي أفعال كلها بوزن(فَعَلَ) بفتحات ثلاث، تحركت فيها الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا (حدث إعلال بالقلب، ولا يتأثر به الميزان وهكذا كل أجوف، أو ناقص واوي أو يائي).
وكذا في الصورة الثاني، القاعدة الصرفية فيها أنه إذا تحركت الواو أو الياء باعتبار، وانفتح ما قبلهما باعتبار آخر، أي تكون هناك صورتان للفعل، أو للكلمة الواحدة، وذلك يحدث في كل مضارع من الماضي الأجوف:(الواوي أو اليائي)، نحو:(يَقُول، ويَصُول، ويجُول، ويعُود، ويقوم)، أو اليائي، نحو:(يبِيع، ويسِيل، ويكِيل، ويكِيد، ويسِير)، حيث تنتقل حركة الحرف المعتل إلى الساكن الصحيح قبلها، وينتقل سكون الصحيح إلى الحرف المعتل، ليتحمل كل ما يستطيعه من الحركة، وذلك بحقِّ (حرمة الجوار)،وأحكامه في الإسلام، وتماشيًا مع القاعدة الشرعية القائلة بأن:(الجار أولى بالشفعة)، وضوابط (الوصاية بالجار) في دين الله القويم، وأنه له الحقُّ كل الحق في العون، والمساعدة، وخصوصًا إذا كان ضعيفًا، وكان جاره قويًّا،واجدًا.
فالحرف الصحيح، وهو القاف في(يقُول)، والباء في(يبِيع) يتحمل عن جاره الضعيف (وهو الواو أو الياء) الحرحة من ضم أو كسر، حيث يأخذ حركته ويتحمل عنه، آخذًا تلك الحركة التي ينوء بها، وبحملها، لكونه حرف علة، فيتحملها عنه، ويعطيه السكون الخفيفة التي يتحملها، لأنه معتلٌّ، مجهَد، مريضٌ، ضعيفٌ، في حاجة ماسة إلى مساعدة جاره، وتطبَّق هنا قاعدة:(الجار أولى بالمعروف، أو أولى بالشفعة)، وأن (حرمة الجوار تتغلب عند الانهيار)، وهذا يسمَّى الإعلال بالنقل، وبعضهم يسميه الإعلال بالتسكين باعتبار أنه في النهاية يُسَكَّنُ فيه الحرف المعتل، لكنَّ المدققين من الصرفيين يعلمون أن هناك فارقًا دقيقًا بين الإعلال بالنقل، والإعلال بالتسكين، فالإعلال بالنقل يكون في الأجوف الواوي أو اليائي، أما الإعلال بالتسكين فيكون في المضارع الناقص المرفوع واويًا كان أم يائيًا، لا ألفيًا، نحو: يدعو، ويسمو، ويرنو، ويزكو، ويعدو، ونحو: يقضي، ويرمي، ويمضي، ويمشي، ويجري، ويعوي.
فقد رأينا الآن أن حرف الواو أو الياء في الماضي الأجوف قد حدث له إعلال بالقلب، وأن المضارع منهما حدث له إعلال بالنقل، أو التسكين، بحسب نوعه أجوف أم ناقصًا.
وهذه قاعدة قياسية منضبطه إلا في اللهجات المسموعة، وهي لا حكم لها على الفصحى، وما ورد على أصل ومقتضى القاعدة المطبَّقة على كل كلمات اللغة: أفعالها، وأسمائها، فالشاذ يؤكد القاعدة، ولا يمحوها، وبيبِّن جمالَها، لا قبحَها، وعندما يتقدم جازم على فعل مضارع واوي العين، أو يائيها فإن آخره يسكَّن لعلة الجزم، فيلتقي سكونُ آخره الصحيح مع سكون حرف العلة.
* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
[email protected]