محمود عدلي الشريف:
اسمحوا لي ـ قرائي الكرام ـ بعد سلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته، أن أصحبكم هذه الحلقة في رحلة نورانية، نقتبس بعضًا من نور صحابي جليل كانت الملائكة تساعده وتسانده وجها لوجه ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ إنه الصحابي الجليل: كعب بن عمرو بن عباد بن عمرو بن سواد بن غنم الأنصاري السلمي الخزرجي، الشهير بأبي اليسرـ رضي الله عنه ـ وهو من أعيان الأنصار، وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا دَحْدَاحًا ذَا بَطْنٍ، يقول عن اسلامه فيما روي عن (بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الْيَسَرِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يُبَايِعُ النَّاسَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ، وَاشْتَرِطْ عَلَيَّ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِالشَّرْطِ قَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتُنَاصِحَ الْمُسْلِمَ، وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكَ).
شهد العقبة وَشَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وكان الغناء يوم بدر .. وغيرها، وله في بدر بطولات كبيرة، وَهُوَ الَّذِي انتزع راية المشركين يَوْم بدر، وَشَهِدَ أُحُدًا، وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وقد شهد صِفّين مع سيدنا عَلِيّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وقد رَوَى عَنْهُـ حديث رسول الله ـ خلق كثير، أشهرهم: صيفيّ مولى أَبِي أيّوب الْأَنْصَارِيّ،وعْبادة بن الْوَليد الصامتي، وموسى بن طلحة بن عُبيد اللَّه، وحنظلة بن قيس الزّرقي، وغيرهم (ما سبق مقتبس من كتب:المستدرك على الصحيحين للحاكم 3/ 577، صحيح ابن حبان ـ محققًا 11/ 424، تاريخ الإسلام، ط: التوفيقية 4/ 186).
وما دعاني لأن أكتب عن هذا الصحابي الجليل ما ندر من قصص مما أثر عنه، فمن عجيب أمره ـ رضي الله تعالى عنه ـ كما جاء في (الجامع الصحيح للسنن والمسانيد 8/ 193) وغيره (عَنْ أَبِي الْيَسَرِ ، كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: أَتَتْنِي امْرَأَةٌ تَبْتَاعُ تَمْرًا، فَقُلْتُ: إِنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبَ مِنْهُ، فَدَخَلَتْ مَعِي فِي الْبَيْتِ، فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا فَقَبَّلْتُهَا، فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ ـ رضي الله عنه ـ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ، وَتُبْ، وَلَا تُخْبِرْ أَحَدًا، فَلَمْ أَصْبِرْ، فَأَتَيْتُ عُمَرَ ـ رضي الله عنه ـ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ، وَتُبْ، وَلَا تُخْبِرْ أَحَدًا، فَلَمْ أَصْبِرْ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَخَذْتُ امْرَأَةً، فَفَعَلْتُ بِهَا كُلَّ شَيْءٍ، قَبَّلْتُهَا، وَلَزِمْتُهَا غَيْرَ أَنِّي لَمْ أُجَامِعْهَا، فَأَنَا هَذَا، فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ، فَقَالَ لِي عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللهُ، لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم: أَخَلَفْتَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فِي أَهْلِهِ بِمِثْلِ هَذَا؟، قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةَ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَالَ: وَأَطْرَقَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ طَوِيلًا حَتَّى أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ:(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ) (هود ـ ١١٤)، قَالَ أَبُو الْيَسَرِ: فَقَرَأَهَا عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ: بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً).
والسبب الرئيس فذ استضافه هذا الصحابي الجليل لنا في هذه الحلقة ما صح عنه أن ملك أعانه على أسر العباس عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبان كفره، ففي تاريخ الطبري المسمى (تاريخ الرسل والملوك)، وصلة تاريخ الطبري 2/ 463): (عن الحكم بن عتيبة بن مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الَّذِي أَسَرَ الْعَبَّاسُ أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو أُخو بَنِي سَلَمَةَ، وَكَانَ أَبُو الْيُسْرِ رَجُلا مَجْمُوعًا، وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَجُلا جَسِيمًا، فَقَالَ رَسُولُ الله ص لأَبِي الْيُسْرِ: كَيْفَ أَسَرْتَ الْعَبَّاسَ يَا أَبَا الْيُسْرِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَعَانَنِي عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا رَأَيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلا بَعْدَهُ، هَيْئَتُهُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ)، وزاد أحمد:(وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: يَا عَبَّاسُ، افْدِ نَفْسَكَ، وَابْنَ أَخِيكَ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ، وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ جَحْدَمٍ، أَحَدُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، قَالَ: فَأَبَى، وَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَكْرَهُونِي، قَالَ: اللهُ أَعْلَمُ بِشَأْنِكَ، إِنْ يَكُ مَا تَدَّعِي حَقًّا، فَاللهُ يَجْزِيكَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ، فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا، فَافْدِ نَفْسَكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ عِشْرِينَ أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، احْسُبْهَا لِي مِنْ فِدَايَ، قَالَ: لَا، ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَاهُ اللهُ مِنْكَ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَيْسَ لِي مَالٌ، قَالَ: فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي وَضَعْتَهُ بِمَكَّةَ، حَيْثُ خَرَجْتَ، عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ، وَلَيْسَ مَعَكُمَا أَحَدٌ غَيْرَكُمَا، فَقُلْتَ: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَلِلْفَضْلِ، كَذَا وَلِقُثَمَ كَذَا، وَلِعَبْدِ اللهِ كَذَا؟ قَالَ: فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا عَلِمَ بِهَذَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرِي وَغَيْرُهَا، وَإِنِّي لَأَعْلَم. وأخرج الطبراني (برقم:11398) عن ابن عباس:(يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَىٰ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنفال ـ ٧٠)، قال:(كان العباس يقول: في والله أنزلت حين أخبرت رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عن إسلامي، وسألته أن يُحاسبني بالعشرين أوقية التي وجد معي، فأبى أن يُحاسبني بها، فأعطاني الله بالعشرين أوقية عشرينَ عبدًا)، وقال ابن عبد البر: هو الّذي أسر عقيل بن أبي طالب ويقال: إنه أسر العباس ونوفلًا وعقيلًا فقرنهم في حبل وأتى بهم رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وسلم) فقال له رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وسلم): لقد أعانك عليهم ملك كريم، وسماه رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وسلم) مقرنًا،وبنو سلمة يدّعون أن أبا اليسر كعب بن عمرو أسر العباس)(إمتاع الأسماع 12/ 167، نقلًا عن (الاستيعاب): 3/ 1015، ترجمة رقم:(1725).
وذكر صاحب الحلية:(فقال العباس: يا رسول اللَّه إن هذا واللَّه ما أسرني لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق، وما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول اللَّه فقال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وسلم): لقد أيّدك اللَّه بملك كريم.ومن طريق عبد اللَّه بن المبارك قال: حدثني جرير بن حازم، عن على ابن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس ـ رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه ـ قال: قلت لأبي: يا أبت كيف أسرك أبو اليسر ولو شئت لجعلته في كفك؟ قال: يا بني! لا تقل ذلك لقد لقيني وهو أعظم في عيني من الحندمة)(الحندم: شجر حمر العروق، واحدته حندمة) (لسان العرب) 12/162، إمتاع الأسماع 12/ 168). بل وقد حظي هذا الصحابي الجليل بدعوة خاصة من رسول الله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ لم ينلها أحد من الصحابة الكرام أجمعين سواه، فيا ترى ما هي تلك الدعوة؟ .. وسيكون لنا معها وقفة في اللقاء القادم بمشيئة الله تعالى.

[email protected]*