سامي بن محمد السيابي:
خلق الله سبحانه وتعالى الأرض بساطًا للحياة وسجّادًا لعبادته، وخلق فيها مخلوقات لا حصر لها كل حسب مسؤوليته وتسبيحه (..كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (النور 41)، في دعم الغاية الكبرى واستدامها واستمرارها وتوازنها، ومن تلك المخلوقات (الجن والإنس) ويضاف إليهما وظيفة التكليف، ابتداءً بالابتلاء واحتسابًا للمحاسبة، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون ـ 115).
والحياة تتطلب العيش الآمن والراحة والاطمئنان والسعادة، بتوفر مستلزم المكونات المعيشية المتوافقة مع المكونات الأساس لمواضع التكليف (القلب والعقل واللسان والجوارح)، والتكليف يستوجب العبادة المشروعة الخالصة، لخالق لتلك الحياة، فالخالق والمعبود واحد، وبهذا يكون التكليف والحياة منسجمان، يمضيان في خط واحد يتزنان بتساوي بعضهما، ويختلان بغلبة أحدهما على الآخر، فلا تصح العبادة بترك السعي للرزق، ولا يصح السعي للرزق بمعزل عن العبادة، وقد استنكر عمر (رضي الله عنه) على رجل ترك الحياة للعبادة لما كان يصرف عليه أخوه، فقال: (أخوك خير منك)، وكذا سدلت المغفرة لحافها على رجل بات كالا من عمله.
والمحاسبة حدد الرسول (صلى الله عليه وسلم) معاييرها ومجالاتها بقوله:(لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ) (رواه الترمذي)، فتلك العناصر هي مجالات حياتية تعبدية تضاف على العبادات المخصوصة (الفرائض).
وعلاقة هذه الحياة بالإنسان هي علاقة تسخير وتمهيد لمتطلبات المعيشة التعبدية لقوله تعالى:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِوَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، ويكمن عقد التسخير في ما يعرف بالابتلاء الذي نطلق عليه مصطلح (الاختبار)، وهذا يستوجب التطلع إلى مجاوزة التحديات بنجاح، ليس مجرد النجاح وإنما بالتميّز، فعلاقة الإنسان بالحياة هي علاقة اختبار لأجل التفوّق والإبداع والتقدم والتحضر (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚوَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)، وموضوع الابتلاء هو حسن العمل الذي لخصه الرسول (صلى الله عليه وسلم) في تفسيره للآية بأنه: الورع عن محارم الله والإسراع في طاعته، فالورع ليس عن الحياة نفسها وإنما عن المحارم فيها، والمسارعة إلى الطاعة تقتضي إبداعًا مصونًا.
تتمثل أساليب التحديات في عدة مصادر، الغاية الشيطانية والنوازع النفسية، والشهوة الجسدية، والمحيط الخارجي الناجم عن المتأثرين بتلك المصادر سلبًا، فللشيطان غاية (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وأما النفس فهي تنقسم إلى ثلاث حالات:(النفس المطمئنة والنفس اللوامة والنفس الأمّارة)، ومنهم من زاد على هذا التقسيم، ولكل حالة من هذه الثلاث مستوى تمامًا كمستويات التحصيل المدرسي، فالمستوى الأول: هو التفوّق القرين للنفس المطمئنة والمصاحب لها، وهذا بعيد كل البعد عن الرسوب، وصاحبها ينعم بالطمأنينة، تدفعه بالتحفيز إلى السبق في مضمار التنافس الخيّر، وهو يتطلّع بفارغ الصبر للنداء الخالد يوم توزّع الدرجات (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي)، وأما النفس اللوامة فما زال صاحبها في جدلية معها، كأنها تريد منه الحفاظ على متوسط المستويات لا يزيد عليه، فكلما أقبل نازعته بشيء من الملامة والمخافة من التقدم وتحدياته، وإن قصّر أو تأخّر لامته بالندم وألزمته التوبة، بيد أنّ صاحب هذه النفس ما زال في مأمن وموعود بالفلاح كما جاء في حديث الأعرابي الذي سأل النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عن المطلوب عليه فذكر له الفرائض الخمس إلا أن يتطوّع بالنفل "فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ) (رواه البخاري ومسلم وغيرهما)، وهذا هو الحد الأدنى للتكليف، ويدل على أنها نفس مؤمنة أن الله شرفها بالقسم بها (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) بيد أنه غير مأمون الجانب فصاحبها يمشي على الحافّة، والمخافة أنه قريب من مستوى الرسوب، ووصفها بصيغة المبالغة دليل على إفراطها في المحاسبة، وكلما كان المسلم متقدما بعد عن الرسوب. وأما النفس الأمّارة فهي الرسوب والانصياع إلى النزعة المتخاذلة، ووصفها بالأمارة أنها ذات طابع تحفيزي موجه توجيها عكسيا، في طرف نقيض مع النفس المطمئنة الموجهة للخير.
وفي التقسيم الآتي يبان الموقف الأخلاقي حيال النفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء، في الجوانب (القلبية، والعقلية، واللفظية، والعقلية)، من حيث تعاملها (الله تعالى، والذات، والآخرين):
أولًا ـ النفس المطمئنة: تمتاز بالنمط التوجيهي للجانب للخيري، بهدف: (التفوق والتفاؤل) (أ) ـ القلب(محل الإيمان):مع (الله) تعرج الأخلاق بالإيمان إلى اليقين والقرب من الله وكذا الرضى والتقوى والخوف والرجاء وتحسن الظن بالله، ومع (الذات) تقوم بالأمانة والتأنّي والتفاؤل والحياء والطمأنينة، ومع (الآخرين) تناطبالسماحة والرحمة والرفق والمحبة، (ب) ـ اللسان (محل اللفظ):مع (الله) تكثر من الذكر والدعاء وتلاوة القرآن، ومع (الذات) تكتم السر وتحفظ الأيمان، ومع (الآخرين) تقوم بالصدق النصح لله والدعوة لله، (ج) ـ الجوارح (محل السلوك):مع (الله) تؤدي أركان الإسلام مع نوافلها، ومع (الذات)الاستقامة والطهارة وأكل الطيبات، ومع (الآخرين)الإحسان والإخاء والأدب والإنفاق البر حسن المعاملة الرحمة المروءة المواساة، (د) ـ العقل (محل الفكر): مع (الله) التفكر والتأمل، ومع (الذات) التعلم وكسب الحكمة، ومع (الآخرين) التعليم والإيضاح.
ثانيًا: النفس الأمارة بالسوء: تمتاز بالنمط التوجيهي لجانب الشر، بهدف: (السقوط والتشاؤم)، (أ) ـ القلب: مع (الله) الشرك الإلحاد سوء الظن بالله، ومع (الذات)أمراض القلوب، ومع (الآخرين)سوء الظن والجفاء والغلظة البغض الحسد المكر النقمة والجفاء، (ب) ـ اللسان: مع (الله) اللغو والمجاهرة بذكر المعصية والفتيا بغير علم، ومع (الذات) الفخر ومدح الذات، ومع (الآخرين) الغيبة وشهادة الزور والاستهزاء والفضح، (ج) ـ الجوارح: مع (الله) ترك العبادات، ومع (الذات) التبذير والتبرج والرعونة، ومع (الآخرين) الإجرام الإرهاب الأذى الإساءة، (د) ـ العقل: مع (الله) تبحث عن ما تتصوره نقص في القرآن والسنة وتعلي من قدر ذلك التصور، ومع (الذات) تقدم العذر على كل خطيئة، إذا ما زينت في النفس، ومع (الآخرين) تأمرهم بالسوء والفحشاء وسوء الظن.. ومنه خرجت تجارب كثيرة كالنسوية مثلًا.
من خلال التقسيم يتضح أن طبيعة النفس البشرة طبيعة مرنة، فهي قابلة أن تجذبها إحدى النفسين، وما يأمنها من تلك المرونة هو الخُلُق، فإن قوي الخلق وتعاظم مال حبل السحب تجاه الاطمئنان، حتى صار آمرًا بالخير أو بلغ مبلغ الجنرالية فيه.

* موجّه تربوي
[email protected]