كاظم الموسوي:
يشمل هذا حال الوطن العربي، وتطور التفاهم بين الأقوام العرقية المتعايشة مع الأكثرية العربية فيه. وقبل التآمر الأجنبي، لم يشكل الموضوع مأزقا للبلدان العربية. وللأسف الشديد، تمكن الأعداء السياسيون والطبقيون للأمة العربية من جعل التنوع العرقي والديني والثقافي، في فترات متتالية، مصدر توتر وصراع مصطنع لأهداف أخرى غير ما كانت عليه الأوضاع الداخلية. استهدف منه ابتزاز الحكومات وإضعافها وزعزعة استقرارها وجعلها تضطر إلى طلب الدعم أو اللجوء إلى تلك القوى الاستعمارية، وتشويه المصطلحات القانونية والإنسانية بصبغها بمفهومها الاستعماري وهيمنتها الإمبريالية، كمفهوم حقوق الإنسان أو التوافقية السياسية أو الحماية الإنسانية. ويأتي كل هذا للضغط الخارجي والتدخل المباشر في الشؤون الداخلية للبلدان، لفرض الهيمنة الاستعمارية واستغلال ثروات الأمة وطاقاتها، وحتى بعد تفتيتها السعي إلى تجزئتها أكثر مما هي عليه، والأبرز فيها الاحتلال الاستيطاني. وتداخلت هنا مشاريع ومخططات صهيوـ غربية في الموضوع ونشرت دراسات وأبحاث تدعو إلى استغلال التنوع العرقي والديني واستهدافه عاملا وذريعة لأهداف أبعد منه. حتى بات الحديث عن سايكس بيكو آخر، أكثر تفتيتا وتقسيما للوطن العربي. من أمثال مخطط برنارد لويس، وما بني عليه. ويزيد الأمر تعقيدا إنكار صيغ التنوع أو قبولها من بعض الحكومات أو أطراف مسيطرة في البلدان العربية التي تتمتع بالتنوع العرقي والديني، وتدفع المجموعات العرقية أو الدينية حينها إلى التمترس بسماتها ومميزاتها كما تتصورها أو تريدها، لا سيما إذا تولتها جماعات سياسية لا تجد بالتعاون مع عدوها الخارجي ضد أبناء شعبها خطرا عليها وتستثمر التآمر وخطط النزاعات والصراعات الداخلية، وتصنع حالات تتحول فيها نعمة التنوع إلى نقمة في تلك البلدان وتدمير التعايش الإنساني بين الأقوام المتعايشة في الجغرافية والتاريخ. وبالتأكيد أن من طبيعة الاجتماع البشري وجود اختلاف وتنوع، وهذا ما منح مجال القانون والدستور أهميته، وجعله مصدرا لحل ما يعقد أو يؤزم التفاهم والتعاون بين الأقوام المتنوعة، وهو الضامن للاعتراف بالاختلاف وضد الإنكار أو التجاوز المركزي على المجموعات الأخرى في البلد الواحد أو في الوطن الأكبر.
باختلاف العرقيات والأديان في الوطن العربي يقتضي البحث المشترك لحلول مشتركة تحتفظ بما يجعل من كل الفسيفساء صورة ناصعة لطبيعة العلاقات ويزينها بتعددها وتنوعها ويجمع ما بينها بالمشاركة الجمعية، ومن بين الوسائل التي بحثت في هذا الموضوع نظرية التوافق القانوني والدستوري، كحل للتعايش السلمي الاجتماعي والمشاركة في السلطة والثروة الوطنية والقومية، دون تشنجات واندفاعات وتعصب وغيره، منطلقين من طبيعة التكوين الحضاري والتاريخي في هذه المساحة والبيئة الجغرافية، وإضافة للنعم المتوافرة تتقدم نعمة التوافق المشترك. ونقل د. وحيد عبد المجيد في دراسة له عن عالم السياسة الهولندي ـ الأميركي أريند ليجفارت، وهو أول من سعى إلى رسم ملامح هذا النموذج عام 1982، وتحديد ملامحه على النحو التالي، برأي الباحث (مع بعض التصرف):
1- نظام سياسي يقوم على ائتلاف واسع يضم ممثلي كل الجماعات الثقافية أو معظمها، سواء في صورة حكومة ائتلافية، أو مجلس أعلى، أو هيئة استشارية ذات نفوذ قوي في مجال التوفيق عند نشوب خلافات على خلفية ثقافية.
2- "فيتو" متبادل لحماية مصالح الجماعات الأصغر يُنص عليه في الدستور أو القانون، ويُلزم باتخاذ قرارات معنيَّة بالإجماع أو بأغلبية خاصة.
3- نظام حصص أو "كوتا" يضمن تمثيل مختلف الجماعات الثقافية أو أهمها، بحيث لا تُهيمن إحداها، أو يُستبعد بعضها أو يُهَّمش.
4- درجة عالية من الاستقلال الذاتي لكل جماعة ثقافية في إدارة شؤونها الدينية والتعليمية والاجتماعية، مع تحبيذ الاتجاه صوب الفيدرالية في حالة تركز كل من الجماعات الثقافية في إقليم معيَّن.
ورغم عموميات النموذج وتطبيقاته في بعض البلدان، لا يرى الباحث نجاح هذه الأفكار في التجربتين اللبنانية والعراقية ويدعو إلى دراستهما مع ما نقله من رأي، للخروج بما يتوافق مع واقع الحال وإمكانات البناء عليه في حل دائم يرضي الجميع، ويتوافق نموذجيا مع التطور والمتغيرات المحيطة، سواء بالأقوام العرقية أو أصحاب الأديان والمذاهب، أو في السلطات واستقلاليتها في القرارات والإجراءات التي تعبِّر بها عن طبيعة التعدد والتنوع والاختلاف والوحدة في إطار القانون والوعي الجمعي.
لعل التعدد العرقي والديني والثقافي، متمثلا بوجود أقوام تتعايش في الوطن العربي مع أكثريته العربية: كالأكراد والتركمان والأرمن والسريان والأمازيغ وذوي البشرة السمراء وأقوام أخرى، ومن الأديان والمذاهب المتنوعة أيضا يكون نعمة للجميع وتواصل روح التعايش والتسامح والتعاون والبناء المشترك. وهو ما أنجز بناء حضارة عربية إسلامية ممتدة أبعد من حدود الوطن العربي حاليا، وأسهم في معمار الحضارة الإنسانية، من خلال تنوعه وتعدد أقوامه ومذاهبه، دون حساسيات أو تباينات فئوية.
في كل الأحوال تظل العوامل الخارجية، الاستعمارية، أبرز الأسباب في تكريس الفرقة والتطرف والإنكار والتعصب العنصري أو الديني، وتركيز اختلافها وصراعها. بحيث تتحول إلى نقمة لا تحمد عقباها ولا تكون نعمة حضارية متميزة. وهو ما شهده التاريخ في الوطن العربي وخارجه أيضا، مستغلًّا ظروفًا أو أوضاعًا أو عوامل داخلية مهَّدت الطريق أو أسهمت في الوصول إلى المآسي والنكبات. ولا سيما الاحتلال الاستيطاني. الذي يكون أبرز أسباب النقمة والتدمير للتعايش الإنساني، والأبرز في هذه السياسات التطهير العرقي وتهجير السكان وحرمانهم من كل حقوقهم المشروعة، سواء للأكثرية أو للأقوام الأخرى. وبحكم طبيعة هذا النوع من الاحتلال الاستيطاني، فيكون عاملا مؤكدا لنهج التدخل والتآمر الأجنبي، وتخريب العلاقات الإنسانية. ولعل أبرز مثال مشروع جو بايدن لتقسيم العراق، (2007) عرقيا ومذهبيا بعد احتلال العراق، بتكريس العناوين العرقية والطائفية الدينية لتمزيق النسيج الوطني وتدمير الوحدة الوطنية والقومية. وشكَّل الاحتلال الصهيوني لفلسطين نموذجا في ذلك، وصنع مظالم كبيرة بحق الشعب العربي الفلسطيني وشوَّه التاريخ وروايته عنه وتركيبته الاجتماعية والثقافية والدينية. ممارسا تلك السياسات تحت عناوين استعمارية ومخادعة، ومثله أو نموذجا آخر ما حاوله الاستعمار الفرنسي في الجزائر. وكشف أهدافا ومشاريع أخرى تضاف إلى تلك السياسات وتجاربها التاريخية. حيث وضح مثل هذا الاستيطان نموذجا آخر لتعميق الاضطهاد العرقي والديني، وأهدافا جغراسياسية أخرى، وتحويل التعامل معه بأي شكل من الأشكال إلى نقمة على الشعب والأمة.