محمد عبدالصادق:
المصريون من أكثر شعوب الأرض اهتماما بالتعليم، ومصر من الدول القليلة التي ينتحر فيها الطلاب بسبب الرسوب في الامتحانات المدرسية. ومنذ عقود طويلة تحول شهر يوليو الذي تظهر فيه نتيجة الثانوية العامة لموسم للحزن والاكتئاب للراسبين، وأفراح وليالٍ ملاح للناجحين، لدرجة أن العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ قدم أغنية شهيرة خصيصا للناجحين حملت عنوان "الناجح يرفع إيده" وكنا نعرف الطلاب نجحوا أم رسبوا من خلال صوت المذياع العالي المنطلق من منازل الناجحين. وأتذكر وأنا طفل صغير في مطلع السبعينيات أن شرطة المسطحات المائية كانت تعلن الطوارئ يوم ظهور نتيجة الثانوية العامة، لمكافحة عمليات الانتحار بإلقاء الطلبة الراسبين أنفسهم في النيل، وهذا العام عاد شبح الثانوية العامة في مصر بقوة نتيجة ضعف المجاميع وكثرة عدد الراسبين، وتكررت حوادث الانتحار من الطلاب ضحايا الفشل في النجاح.
الاختلاف الوحيد بين أيامنا السالفة وهذه الأيام؛ أن الأهالي زمان كانوا يلقون بمسؤولية الرسوب على تقصير الأبناء في مذاكرة دروسهم، وكان العقاب بجميع أنواعه "بدني ومادي ومعنوي" مصير الراسبين. وحتى أثناء الدراسة إذا حدثت مشكلة في المدرسة تطلبت استدعاء ولي الأمر، كان الأب يذهب إلى المدرسة حانقا ومتحاملا على ابنه، ويطلب من المعلِّم الإمعان في عقابه، وكانت هناك عبارة شائعة "كسر وأنا أجبر"، أما الآن فتحول الوضع 180 درجة، وأصبح الآباء والأمهات خصوصا يؤمنون بقدرات أبنائهم مهما كانت متواضعة، ويعفونهم من أي مسؤولية عن الرسوب والتقصير، ويعتقدون أن هناك مؤامرة كونية وراء رسوب أبنائهم، وربما هذا يفسر الرقم المهول لتظلمات الثانوية العامة في مصر هذا العام. والمفارقة أن تجد أبا مصدوما يقول في أسى: إن ابنه من الأوائل طوال السنين الماضية، وأنه كان ينتظر حصوله على علامات فوق التسعين في المائة، وكان يُمني نفسه أن يلتحق بالطب أو الهندسة، أو إحدى كليات القمة كما يسمونها، ولكنه فوجئ أن ابنه رسب وحصل على 45% فقط، وينعى حظه ويتباكى على المبالغ الباهظة التي صرفها على الدروس الخصوصية، والتي تقدر الأرقام الرسمية حصيلتها في مصر بالمليارات، نتيجة الرغبة العارمة والتصارع للحصول على درجات تؤهل لكليات القمة، حتى لو أصبح خريجوها يقفون في صفوف العاطلين.
ويلقي معظم المصريين مسؤولية فشل أبنائهم على النظام الجديد للثانوية العامة، "البابل شيت" الاختيار من بين متعدد ويرون أنه لم يخدم الطلبة الشاطرين، وأنه يعتمد على الحظ في اختيار الإجابة الصحيحة، ويرون أنه كان من الأفضل الإبقاء على نظام "البوكليت" الذي يقيس المستوى الحقيقي للطلاب، كما يحملون المسؤولية لوزارة التربية والتعليم التي أربكت الطلاب بإعلانها استخدام "التابلت" في الامتحانات وتدريب الطلاب عليه في الصفين الأول والثاني الثانوي، ثم إجراء الامتحان ورقيا خشية حدوث أعطال في الأجهزة، وعدم اكتمال الاستعدادات التقنية للتصحيح الإلكتروني.
رغم اهتمام المصريين بالتعليم وما يتكبدونه من جهد ومال، هناك هبوط حاد في مستوى الخريجين، حتى أن الجهات التي تجري مسابقات أو مقابلات شخصية لاختيار موظفين جدد من حديثي التخرج تشتكي من ضعف مستوى المتقدمين في اللغات الأجنبية واللغة العربية والعمليات المحاسبية، مقارنة بمستوى الخريجين السابقين، ويضطر كثير من الجهات لإلحاق الذين وقع عليهم الاختيار بدورات تدريبية أولية في اللغات ومبادئ المحاسبة والرياضيات، وما زال المصريون مُصرِّين على تخصصات بعينها تضخم عدد خريجيها ولم يعد هناك طلب عليها، ويعزفون عن دراسة تخصصات أخرى أيسر تكلفة وأقل صعوبة والسوق في حاجة لخريجيها ومرتباتها مجزية، رافضين التخلي عن الأفكار التي عفا عليها الزمن والتي تحصر النجاح والمستقبل في الشهادة الجامعية.