د. حميد بن محمد البوسعيدي:
يأتي هذا المقال ليطرق بابا لطالما ظل مؤصدا أعواما عديدة، فمسؤولو الخدمة المدنية لم يبذلوا جهدا استثنائيا لكي يكون نظام الترقيات والحوافز بالوحدات المدنية متوازنا وعادلا مع الأجهزة الأخرى غير المدنية بالدولة. هذا المقال يأتي ليضع تساؤلات وتحليلات طالما غصت بها المجالس العامة وأروقة العمل وجفت منها الأقلام والصحف فماذا حدث؟
عدد من آلاف الموظفين غادروا نظام الخدمة المدنية بعضهم اختياريا، لأنهم يئسوا من طول طابور الانتظار لعدم وجود بصيص أمل في مساواتهم بأقرانهم في الأجهزة الأخرى غير المدنية فيما يخص الترقيات والحوافز. والبعض الآخر خرجوا من الخدمة باكرين بعدما أوقعتهم النسبة التي حددها فريق التوازن المالي في أمر إحالتهم للتقاعد، فقالوا سمعا وطاعة من أجل الوطن. ولعل الغاية والهدف من ما يسمى "التقاعد المبكر" كان لتقليص الإنفاق العام وفتح فرص جديدة للباحثين عن عمل. ولعل المسؤولين في برنامج التوازن المالي كانت لديهم مبررات علمية وعملية عندما عرضوا هكذا مبادرات، فيما يتعلق بآليات تنفيذ "التقاعد المبكر" العام الماضي. والمغزى هنا بأن أنظمة العمل فيما يخص الترقيات والحوافز، لم تراع التوازن والعدالة الوظيفية بين موظفي الدولة المدنيين مع غير المدنيين، سواء أثناء خدمتهم أو أثناء إحالتهم للتقاعد.
إن عملية تأخير الترقيات والتفاوت في الحوافز لموظفي الخدمة المدنية الذي استمر طيلة عقود من الزمن، كانت له آثار سلبية في مستوى الخدمة المقدمة للمستفيدين، وأيضا أدى في بعض الأحيان إلى اختلال في أمانة العمل، حيث أفرز عن بعض من موظفي الدولة، قاموا بأعمال تتنافى من الصلاحيات المناطة لهم، وذلك باستغلال وظائفهم لخدمة أغراضهم الخاصة والاستيلاء على المال العام.
نجزم بأن مجلس عمان قدم خدمات ومقترحات ساندت الدولة في مجال الخدمة المدنية. كما أن أجهزة الخدمة المدنية كانت تعول عليه أيضا طيلة الحقب السابقة، بأن يقوم مجلس عمان بشقيه (الشورى والدولة) ليكون سندًا وعضدا للموظفين المدنيين في محاولة رفع المعاناة في الخلل والتفاوت في الترقيات والحوافز بين أنظمة الخدمة المدنية وغير المدنية. مجلس عمان وتماشيا مع الاستقلال المالي والإداري الممنوح له، كان له رأي آخر، فأوجد نظاما مستقلا خاصا لمنتسبي المجلس اختلف نوعا ما عن نظام الخدمة المدنية. وكان المأمول من مجلس عمان، طيلة الأعوام الماضية، وبما له من صلاحيات تشريعية ورقابية، أن يطالب بتوحيد أنظمة الخدمة المدنية لا أن يوجد حوافز تفضيلية لموظفيه. وبما أن الدولة تعتبر مجلس عمان منارة شامخة في العدل والمساواة بين الأجهزة المدنية، لذا صدر قانون مجلس عمان العام الماضي، والذي نص على إخضاع مجلس عمان لأنظمة الجهاز الإداري للدولة في أمور عدة، منها فيما يتعلق بالهيكل التنظيمي وإخضاع المجلس لرقابة جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة. قانون مجلس عمان الجديد يعطي تنبيها واضحا للأجهزة الأخرى بالدولة، بأن القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - شعارها للمستقبل لا تفاوت في الحقوق والمزايا الوظيفية انسجاما مع ما رسمته رؤية عمان 2040م من توجهات ومبادرات في هذا الشأن.

ولعل تصريح وكيل العمل للموارد البشرية قبل فترة وجيزة في محله، عندما ذكر بأن منظومة قياس الأداء الحالية لا تسمن ولا تغني من جوع. فهي على سبيل المثال، لم تراع الأكاديميين أو الأطباء الذين كرسوا وقتهم في التدريس والرعاية الطبية والبحث العلمي ونشر الأوراق العلمية وحضور المؤتمرات لكي يحصلوا على مراتب أعلى في الدرجات العلمية والطبية. الأعوام التي قضوها لم تشفع لهم منظومة الترقيات والحوافز بأنظمة الخدمة المدنية، فظلوا أعواما طويلة دونما ترقية، وكانت رسالة المنظومة الحالية للترقيات لهم: الكل سواء الذين يعلمون والذين لا يعلمون. وعندما نذكر هذه الأمثلة، ليس تقليلًا للوظائف الأخرى ولكن تلك الوظائف والمهن الطبية في الأساس لا تترقى طبقًا لقواعد الترقية المتعارف عليها، وإنما الأصل في ترقيتهم هو البحث والنشر العلمي، فترقياتهم وظيفية وليس بدرجات مالية. ومن الملاحظات الهامة للقائمين على بناء منظومة قياس الأداء والإجادة الوطنية، أن يعيدوا النظر في معيار "الأقدمية في الترقية " فتخفيض نسبة الأقدمية وبناء معايير جديدة لاستحقاق الترقية دونما الأخذ في الحسبان مدة البقاء في الوظيفة أو الدرجة المالية، قد يلحق ضررا لفئة كبيرة من موظفي الخدمة المدنية الذين ظلوا ينتظرون الترقية لأكثر من 10 أعوام، فهل من مجيب؟.

[email protected]

خبير بمكتب ضمان الجودة – جامعة السلطان قابوس