د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. وهنا يحدث ما يسمَّى الإعلال بالحذف، حيث يُحذَف حرفُ العلة المقابل لعين الميزان، حتى لا يلتقي ساكنان، نحو:(لم يقُل،لم يصُم، لم يقُم، لم يعُد، لم يسُد) في الأجوف الواوي، ونحو:(لم يبِع، لم يسِر، لم يكِل،لم يجِئ) في الأجوف اليائي، وهنا يلزم حذف أحد الساكنين، وهو حرف العلةلأن اللغة لا تجيز التقاء الساكنين، فهي لغة نشيطة ليست كسولة وفَعَّالة.
ويحدث الإعلال بالنقل، ويترتب عليه إعلال بالقلب، كما في نحو:(استعار الرجلُ الكتابَ، واستقال فلانٌ من منصبه، واستمات الجنديُّ في القتال، واستشار الولدُ أباه، ولا يجوز في قواعد الصرف أن تُبْقِيَ على واو أو ياء تحركت، وانفتح ما قبلها كما سبق (في صورة واحدة للَّفظ، أم في صورتيْه كما مثَّلْنا سلفا)، فلا تقل:(استقْوَم الرجل على طريق الجادة)، ولا (استشْوَر الرجل أخاه)، ولا (استعْوَد الرجلُ حقَّه من ظالمه)، ولا تقل:(أبْيَع الرجلُ سلعتَه)، ولا (أسْيَلَ العاملُ النحاسَ)، ولا (استَحْوَذَ الأخُ الأكبرُ على حقِّ إخوته الصغارفي الميراث)، ولا (استقْيَل الرجلُ من عمله)، ويجب هنا تطبيق قاعدة الإعلال بالنقل، أو التسكين التي يترتب عليها إعلال بالقلب مباشرة، حيث يتعانق الإعلالان بسبب ترتُّب حصول الثاني منهما على حصول الأول، فلإعلال بالقلب يترتب على حصول الإعلال بالنقل، فهما متلازمان.
لكننا إذا طبَّقنا ذلك على الآية التي معنا من سورة المجادلة، التي ورد فيها الفعل:(اسْتَحْوَذَ) بوزن (اسْتَفْعَلَ) وجدناه ظاهريًا أمرًا غريبًا، لم يجرِ على سنن القاعدة،ولا على وفاق الضابط الصرفي المذكور سلفًا، وغير جار على قول العرب، فإنه كان يلزم أن يجيء:(استحاذ) بإعلال بالنقل، أو التسكين الذي ترتب عليه إعلال بالقلب، فأصل (استحاذ) (اسْتَحْوَذَ)، تحركت الواو باعتبار الأصل، وانفتح ما قبلها باعتبار الحال، فقلبت الواو ألفا، فكان يلزم أن يقال:(استحاذ عليهم الشيطان)، مثل:(استعان، واستجاب، واستحال، واستعار، واستقام) .. ونحوها، مما يجب فيه تطبيق قاعدة لإعلال بالنقل المترتب عليها قاعدة الإعلال بالقلب.
ولكنَّ القرآن الكريم عَدَلَ عن هذه القاعدة، وجاء على غير وفاقها، وخالف ما وُضِعَ من ضابط صرفي يجب أن يمضي، وأن يطبَّق على آلاف الكلمات:(أسماء كانت أم أفعالًا)، وأبقى القرآن الكريمُ الواوَ مفتوحةً، وهي حرف علة، في الوقت الذي جارها ـ وهو حرف الحاء ـ حرف صحيح ساكن، فكيف يتحمل الضعيفُ المعتلُّ الفتحةَ الثقيلةَ المُجْهِدَةَ له، في الوقت الذي عن يمينه جارُهُ القريب منه، والأدنى، وهو صحيح، يتمتع بالسكون، والهدوء، والدَّعَة، إنه خلاف القاعدة، ووارد على النقيض منها، وتأبَّى اللفظ (استحوذ) أن تجري عليه القاعدةالصرفية.
فما العلة في تلك المخالفة؟، وما الدلالة،والمغزى الذي رمى إليه القرآن الكريم من وراء ذلك؟.
ترى ـ كما قدمتُ لك من تفسير ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ لمعنى الاستيحاذ، وأنه احتيال، ومكر، والتفاف على القاعدة، حيث يلفُّ الشيطان، ويدور إبليس، ويَسْتحْوِذُ على ذهن صاحبه، ويحاول إغراءه، وإغواءه، والسيطرة عليه بكل طريقة، وكلِّ أسلوب، وكلِّ مراوغة، وكلِّ خداع، وكلِّ مكر، والسياقُ سياقُ حديث عن الشيطان، وسبلِ إغوائه، وطرقِ مَكْرِهِ، وإدخال الأمر عليه بكل يسر، ودهاء، وخُفية، واحتيال، واستيحاذ، واحتضان كاذب، واحتواء، حتى إنه لَيَدْخُلُ على الإنسان من هذه الزاوية، وينطلي عليه كابا تلك الناحية، ويخدع، ويمضي الإنسان المخدوع وفق ما يُلقيه الشيطان عليه، ويمليه، ويهيمن، ويستحوذ على عقل هذا الشخص لإبعاده عن الله، ويتفرد به؛ وهذا المعنى تمثَّل في تأبِّي الفعل (استحوذ) على الرضوخ إلى الإعلال، وبقائه على واوه، رغم اعتلاله، وسكون الحرف الصحيح الذي قبله، ولكنَّ القرآن الكريم عدل هنا عن (استحاذ) إلى (استحوذ)؛ ليبين المعنى الذي سيق له هذا المضمونُ، وهو استحواذ (استيحاذ) الشيطان، وتمكُّنه، وتسلُّطه، وتملُّكه لعقولهم، والسيطرة عليها دائمًا، وإدخال هذا الفعل بتلك البنية الصرفية دونما تغيير إنما هو لون من ألوان السيطرة، والهيمنة التي يقوم بها الشيطانُ لإغواء بني آدم، والزَّجِّ بهم في أَتُون جهنم، وإبعادِهم عن طريق ربهم، ويدخل عليهم من باب النصح، والنصح منه براءٌ،ويستحيذ على عقولهم، وأفكارهم، وسلوكياتهم، خداعًا منه، ومكْرًا،ودهاء: أنه يخدمهم، وهو لا يخدمهم، إنما فعل ذلك سيطرة عليهم، وهيمنة فوق هيمنة، وتمكُّنا، وتسلُّطًا، وامتهانًا لتفكيرهم الذي كان يجب أن يتبصر الضوابط، والأحكام النحوية والصرفية المعمولَ بها في اللغة، التي يقابلها الأحكام والضوابط الدينية المعمول بها شرعًا، والمتناغمة مع تعاليم الدين، فجاء الفعل مستعصيًا على الترويض، متأبِّيًا على السير على سنن، ووفاق القاعدة الصرفية في الإعلال بالنقل، والقلب، كما استجابت آلاف الأفعال قبله للقاعدة، وانضوتْ تحت راية ضابطها الصرفي، وتغيَّرت،ومضتْ، قد قُلِبت فيها الواو أو الياء ألفا؛ لتحركها، وانفتاح ما قبلها، لكنْ تأبَى الفعل (استحوذ) ـ بدلالة استيحاذ الشيطان له، وتسلُّطه عليهم ـ جاء الفعل هو الآخر، وقد استحوذ عليه غروره، وسيطر عليه خداعه، فظهر لفظه مستحوا عليه، وهيمن الظلم والاستيحاذ على نطقه، وبدا في صورته المستحوذ عليها المخدوعة، فلم يقبلِ التغيير، وخُدِعَ الفعل، ومُكِرَ به، فخرج الفعل مخالفا للقاعدة، لكنه كشف لنا بهذا العدول عن معنًى دارت حوله الآيةُ كلُّها، بل السورة جمعاء، وجاءت المخالفة لتتساوقَ، وتتناغمَ مع دلالة استيحاذ الشيطان، وتغلّبه، وتمكُّنه، ومكْره، وخداعِه، فأقنع الفعلَ أن يستحوذ على القاعدة، ويتجاوزها كما يفعل الشيطان بالإنسان، ويلعب به في مراتع المعصية، ويُملِي عليه أن يظلَّ مغرورًا، ومتأبِيًا، وغير منصاع لتعاليم الدين، وضوابط الإيمان، وغير مستكين لضوابط الشرع، وتعاليم السماء، فيخدعه الشيطان مستحوا عليه، مستخفا به، لاعبا بعقله، خادعا له، ماكرًا به، مهيمنًا عليه، فجاء الوزن والبنية الصرفية متساوقة مع المعنى الذي سيقت له الآية، ومتماشية مع الدلالة التي أراد القرآن الكريم نقلها.
وكذا بدتِ الصيغة الصرفية مخالفةً لأصل القاعدة، وغيرَ جاريةٍ على وفاقها، وسَنَنِها؛ لتحكيَ لنا هذا الاستيحاذ الذي تمَّ من الشيطان على بني البشر، وسيطر على عقل الإنسان، وأدخل عليه- مكرا منه، ودهاء- أنه على صواب من أمره، ووفاق لمقاصد الدين، وبالطبع ليس الأمر كذلك، وإنما تمَّت السيطرة، والهيمنة، وفرْضُ الرأي، والقسوةُ، والإغواءُ، والخداعُ، تمامًا كما بَدَتِ الصيغة الصرفية على تلك الهيئة، وهذا الوزن المخالف لأصل القاعدة التي كانت توجب أن تجيء البنية الصرفية، راضخة للقاعدة، وراضية بأن يحدث فيها الإعلالان النقل، والقلب، فتكون (استحاذ)، وليس(استحوذ)، لكنها برفضها وعدولها عن الجادة بينت عدول العاصي عن جادة الطريق، وتأبيه السير وفق الضوابط الشرعية التي يلتزم بها جميع المؤمنين،والصادقين.
وقد بدا الآن ـ بعد هذا التحليل لطبيعة السياق، ومضمون المعنى، ووضوح الهدف، وبيان المرمى القرآني ـ لِمَ كان هذا العدول الصرفي، وبقاء الصيغة على غير وفاق القواعد الصرفية وحدث بها العدول الذي تمثل في عدم التغيير، والسير طواعية نحو القاعدة، والاستجابة للضابط الصرفي، والمثول لمطلبه، فهما معنيان متوافقان لغة وتفسيرًا،وأكدا ما أراده القرآن.
كل ذلك في رأيي داخلٌ في إطار الاستحواذ، والإكراه، وسلْب الكلمة حقَّها في التغيير السليم، والسير نحو تطبيق قواعد الصرف، واحتواء اللفظ أن يجريَ على قاعدته، منفِّذًا إياها؛ جَرَّاء هيمنة الشيطان على بني الإنسان، وإبعاده عن الله، وطريقه، كما تحكيه اللفظة صرفيًّا، حيث أُبْعِدَتْ عن التغيير الصرفي، واستحوذ عليها النطقُ غيرُ الصحيح، والذي يجري على غير السياق الدقيق ظاهريًّا، وقد بقي الفعل دونما تغيير، واستلبه السياقُ حقَّه، لكنه استلابٌ، وعدولٌ متناغمٌ مع السياق العام للآية، وهو هيمنة الشيطان على الإنسان، وخداعه، والإيقاع به، فكذلك سُلِبَ من اللفظة أو الصيغة الصرفية حقُّها في التغيير من(استحوذ)إلى (استحاذ)، فتناغم الفعل والسياق معًا، وصار كالمسيطَر عليه، والذي أغلق عينيْه، ومضى مستحوَذَا عليه، متملَّكا منه،مسترسِلًا في غوايته، لا يفكِّر، ولا يتأبَّى، ولا يرفض، ولا يطلب أن يجريَ على وفاق القاعدة؛ لكونه مهيمَنًا عليه، ومستحوَذا عليه في أن ينفِّذ ما سيق له من مهمة دون النطق ببنت شفةٍ، ودونما استعمال لعقل، ولا فكر، ولا رويَّة، ولا نظَر، تمامًا كما يفعل الشيطان ببني الإنسان؛ استحواذًا على عقولهم، وهيمنةً على أفكارهم، وتسييرًا لسلوكهم، فيأخذهم إلى طريق الغواية، وسبيل العناد، وعدم الرضوح للضوابط الدينية، والقواعد المرعية، والضوابط الشرعية، ويظلون كذلك حتى يلقوا حتفهم بظَلْفهم، وتكون عاقبتهم وخيمة، وآخرتهم أليمة.
وهكذا التقت الصيغة الصرفية مع المرامي الدلالية، والمعاني التربوية، والقيم الإيمانية.
وهكذا كان العدول الصرفي هو القمة في مكانه، وهو المعنى السامي في سياقه، قد وصل في الفصاحة أقصاها، وفي البلاغة أسماها، وفي ربط الصيغة:(وفاقًا، وخلافًا، اعتدالًا وعدولًا بالسياق، ودلالته، وكماله، وجلاله، وجماله إلى مستويات الدقة والتناغم والترابط الدلالي).
وفَّقنا الله إلى فهْم كلمات الكتاب العزيز، والنَّهْل من معينها الفيَّاض، وبستانها المرتاض، وحدائقها الغنَّاء، وجلال معانيها الشَّمَّاء، ومُسُوكِها الفيحاء، ورياضها الزهراء، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم، والحمد لله رب العالمين.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
[email protected]