سامي الهاشلي:
الحياة الدنيا ميادين للعمل والعلم والتربية والاكتشاف والتعمير والابتكار، فمن وافى حقها عُدَّ من أهل الصلاح، صلاحًا تشاركيًا سواءً وضعيًا أو حكميًا، وفي ذلك تعددت المسؤوليات في دوائر وميادين تتفاوت الأحجام فيها في المسؤولية الحياتية الاجتماعية تبدأ بالفردية وتنتهي بالإنسانية والكونية، فالفرد مسؤول عن نفسه وعن ما امتلك من قدرات كسبية أو وهبية في العقل والسمع والبصر والجسد والنفس ليوظفها فيما خلقت له طبقا لمراد الخالق، ثم تتوالى تلك المسؤولية في التحجيم، من الفردية إلى التشاركية، وأولها الأسرة، كمسؤولية الزوجية والأمومية والولدية والوالدية والأخوية والرحميةوالجوارية، وكل مسؤول عن الآخر وإن كان الآخر أعلى منه، ولو بحبل ما، وهو مسؤول عن الحفاظ العام عن المسؤولية المجتمعية، وقد قلّد الإسلام جميع أفراد الأسرة والمجتمع مناصبا لتمضي الحياة في مستقرها الآمن.
* المسؤولية الأخلاقية الدنيوية
من مجموع المجتمعات تتشكل الأمة، وفي مستوى الأمة تتشارك المسؤولية أيضًا بينها وبين الفرد، فالفرد ينتظر من أمته توفير العيش الكريم والأمن والاستقرار والحق والعدالة، والأمة ترجو منه المساهمة في حفظ مقدراتها وأمنها، ويتفرع عن هذه المسؤولية أغصن عديدة منها مسؤولية الحاكم عن الشعب، والقوي عن الضعيف والغني عن الفقير.
تتعدى المسؤولية الأخلاقية إلى أزمنة مديدة متعاقبة، فكل جيل مسؤول عن اللاحق من الأجيال بإعداده إيمانيًا وخلقيًا وعلميًا وعمليًا ونضاليًا واقتصاديًا واجتماعيًا لأجل تجسير المضي له لضمان سيره بنجاح وتفوق، وكذا يتعدى الالتزام الأخلاقي ليشمل الكون وما فيه من مخلوقات إنسانية وحيوانية وجمادية ونباتية ومن مسخرات خلقها الله في قالب الاستخلاف، تظل على عاتق الإنسان.
* المسؤولية الأخلاقية الأخروية
المسؤولية الأخروية جماعية المبدأ فردية المصير، فالنداء القرآني لمختلف شراح الناس جاء خطابا جماعيا (يا أيها الناس، يا أيها الذين آمنوا، يا أهل الكتاب)، وتزداد المسؤولية على الحكام والذين أوتوا العلم للأمر بطاعتهم في إطار طاعة الله ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ..) (النساء ـ 59)، فعلى المجتمع وعلياء قومه أن يفعّلوا التعليم والإرشاد والتوجيه للناس عامة على كل المنابر، ثم تأتي المسؤولية الفردية بعد ذلك لتتحمل نتاج اختيارها وعملها (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم ـ 59)، لتحاسب كل نفس بما تسعى (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ) (طه ـ 15)، (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ،وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ) (النجم 39 ـ 41)، وتظل المسؤولية الأخروية على الفرد وإن كان المجتمع أو الآمر فيه غير متقٍ، والطاعة العمياء لا تؤمّن المصير، وقد حاسب الله جنود فرعون على طاعتهم له في المعصية، والقاعدة العامة (لا طاعة لمخلوق في معصية الله)، قال الله تعالى عن مصير الجندي المتعلل بالأمر العسكري استكبارًا على الحق والعدل واستخفافا بالمصير:(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ،فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّفَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِوَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ،وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةًوَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ) (القصص 39 ـ 41).
* المسؤولية الفرديةوالجماعية على الأخلاق
يقول الشيخ عبدالرحمن حسن حنبكة الميداني:(لقد دلت التجربات الإنسانية، والأحداث التاريخية، أن ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة، ومتناسب معه، وأن انهيار القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لانهيار أخلاقها، ومتناسب معه، فبين القوى المعنوية والأخلاق تناسب طردي دائما، صاعدين وهابطين) (الأخلاق الإسلامية وأساسها 1/34)، ويعلل لذلك أن الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع معقودة على الأخلاق الفاضلة، متى ما انفك الخلق عن الأفراد انفك معه الرابط الاجتماعي وإن تأصل تأصلت معه، وبهذا لا يعذر من تفرد بخلق مخل عن الجماعة وإن كان غير مسلم، أو كان في مجتمع غير مسلم، والروابط الأخلاقية في الإسلام أقوها عقدًا وأمتنها تأصيلًا.
وتجد الشعوب غير المسلمة تعتني بروابطها بالأخلاقية الفاضلة غالبًا، بخلاف ما هو حاصل في مدنهم المفككة، فهي شعوب تستنكر مما بقي من السجايا الفطرية الكذب والخيانة وإخلاف المواعيد والتأخر فيها، والتقاعس عن العمل، والغش والسرقة والبخل والفوضى وغيرها، وكلما اتجهت صوب الأرياف زادت متانة الأخلاق في تعاملاتهم، فالأب الريفي مستعد لقتل من تجرأ على ابنته بالتحرّش ومسدسه في جيبه، وقد انبثقت من ثنايا اهتمامهم بالأخلاق منظمة حقوق الإنسان، ومنظمة "اليونيسيف" التي تعنى بالأطفاللتقديم للمحتاجين منهم الخدمات الصحية وتوفير الغذاء والملابس، ولحمايتهم من الإيذاء والاستغلال والعنف، وكذلك منظمة"الأونروا" المعنية بإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين وتعليمهم، بعد ما طردهم الاحتلال الإسرائيلي، وقد بلغ عددهم أكثر من (5) ملايين.
* مسؤولية المسلمين على الأخلاق
بداية لا بد من التذكير بأنّ الإسلام اهتم بالتهذيب الجوهري للنفس والقلب والفكر، فبصفائها تؤمّن السلوكيات التطبيقية، إذ التصرف السليم الظاهر ينبع من الجوهر النقي الباطن، لذلك نزلت آيات القرآن في أغلبها لتصفية القلوب بالإيمانوتزكية النفس من النزعات المفرطة، وجاء الرسول (عليه الصلاة والسلام) وهدفه إتمام مكارم الأخلاق تطبيقًا واقعيا لتلك التعليمات القرآنية (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة ـ 151)، ثم يأتي بعد ذلك دور المسلمين الملقى على عاتقهم المهارة الأخلاقية السليمة في سلوكياتهم وتعاملهم وأقوالهم، وعلى مسؤوليتهم تصدير تلك النموذجية إلى غيرهم لتستمر غاية إتمام الأخلاق التي بدأها رسولهم، راية محمولة مرفرفة لا تنزل عند غروب.
* مسؤولية أعداء الإسلام على أخلاق المسلمين
بما أنّ الروابط الاجتماعية تأمنها الأخلاق، فتلك الروابط تكون محل استهداف للمتربصين بالمسلمين من أعدائهم سواء من الداخل أو الخارج، ويعزى التربص الداخلي إلى غياب الوعي الشمولي لمستقبل الدين، أو إلى الفهم السطحي لمقاصد الشريعة الأخلاقية في القوالبالإيمانية أو الفقهية،وأول ما تسدد فيه سهام التربص الخارجي، النبع الأساس لتلك الأخلاق وهو الإيمان والقرآن وشرع الله وسيرة الرسول وسنته، ففي الإيمان ظهر ما يعرف بالإلحاد وعبدة الشيطان، ونعت الإسلام بالرجعية وعدم الواقعية وأنه بعيدا عن التحضّر، وفسرت نصوص بطرق مغايرة تزّهد أتباعه في اتباعها، وجاءت عقائد إحباطية تضيق الرحمة الإلهية، وأخرى تهمل العدالة الإلهية، وتفتح أبواب التمادي على مصارعها، وفي الشرع حدثت تلاعبات بمفاهيمه ومتطلباته وتشويهه ومضايقة رواده ومبلغيه على الدوام، ونجحت محاولات أحالت مصدرية الفتوى من العلماء الأبرار إلى منابر الشبكة العالمية التي هي مسارح للفوضى والتجنيد الإرشادي المضل. ومما ساهم في ذلك الخذلان أنه جرد تدريس السيرة النبوية باستخراج الحكم واستنباط الأخلاق حتى سارت على درب الحكواتيات الليلية، بل لم تجد كتب فضائل الأخلاق رفّا لها في مناهج التربية فضلًا عن الجامعات والكليات، حتى الكليات المعنية بدراسة العلوم الشرعية لا يوجد فيها مناهج للقيم، بل طرح تعليم الإيمان على المنحى الكلامي العقدي يتخرج منه الخريج بحفظ الأقوال والردود عليها وهو مفتقر للتغذية الوجدانية التي تقربه من خالقه وتحفظ أخلاقه.

كاتب عماني