د. أحمد مصطفى أحمد:
مع استمرار التطور التكنولوجي بشكل مطرد، يتوسع سوق المنتجات الجديدة باستمرار، ليس فقط لاستهلاك الأفراد، بل للشركات والمؤسسات وحتى الحكومات. ومن بين تلك المنتجات التي تشهد طرح الجديد باستمرار برامج التكنولوجيا المالية وربط الشبكات وبرامج التأمين. وفي سياق التطوير، وجعل النظم الحكومية (سواء في المحاسبة أو شؤون الأفراد أو خدمة العملاء) في الدول النامية والصاعدة قريبة من مثيلاتها في الدول المتقدمة تستثمر الحكومات في مبادرات التطوير التكنولوجي للبيروقراطية الحكومية. وجاء عام وباء كورونا ليزيد من تعاملات الناس خلال فترات الإغلاق للحدِّ من انتشار الفيروس عبر الإنترنت. وإضافة إلى التعليم عن بُعد والعمل من المنزل وغيرها، حققت التجارة الإلكترونية نموًّا هائلًا. ويحتاج كل ذلك، إضافة إلى بعض الخدمات الحكومية التي بدأت تتم عبر الإنترنت، إلى تطوير برامج الدفع الإلكتروني وتحويل الأموال أونلاين.
صحيح أن مبادرات التطوير التكنولوجي، والتحوُّل إلى العمليات الإلكترونية، في كثير من الدول بدأت منذ فترة، إلا أن عام وباء كورونا جعل تلك المبادرات والتحوُّلات تتسارع. وزاد ذلك من الطلب على البرمجيات والشبكات والحلول الإلكترونية بما يشجع قطاع إنتاج وتسويق التكنولوجيا على طرح منتجات متجددة باستمرار. ورغم أن تلك المبادرات وعمليات التحوُّل كان ينظر إليها من قبل على أنها وسيلة لتقليل أعداد الموظفين والعاملين، وبالتالي كلفة كشوف الرواتب للإدارات والمؤسسات والشركات، إلا أنها الآن أصبحت مقبولة من الجميع بعد تجربة عام الوباء. الواقع أن عمليات التحوُّل التكنولوجي تلك بالفعل تسهم في التخلص من العمالة الزائدة بما يزيد من كفاءة الأداء، لكنها لا تعني أبدا التخلي عن البشر تماما. فالتكنولوجيا تحتاج دوما لمشغلين من البشر. وكثير من تلك البرمجيات والوسائل الإلكترونية إنما تسهل عمل الموظفين والعمال بما يفيد الجمهور في النهاية.
تحتاج كل تلك المبادرات وعمليات التحوُّل الإلكتروني إلى تدريب الكوادر البشرية في الإدارات والمصالح الحكومية والأعمال والشركات الخاصة على استخدامها بالكفاءة القصوى. لكن برامج التدريب تلك تقتصر على تعليم مهارات التشغيل والاستخدام للتكنولوجيا. ولا يتضمن التدريب رفع كفاءة العاملين، خصوصا من لهم علاقة بالجمهور، بشكل وظيفي عام. ولعل هذا ما يجعل الأمر في كثير من الحالات لا ينتهي بالاستفادة الكاملة من التطوير التكنولوجي والتحوُّل الإلكتروني. فالموظف الذي يستخدم البرامج المتطورة والحلول الإلكترونية لتسهيل عمله ويتصرف بالعقلية البيروقراطية ذاتها التي تحكم تجربة العمل السابقة لن يفيد. بل على العكس، قد يكون عائقا أمام التطوير الذي كان هدفا أوليا للتحول التكنولوجي.
مثال بسيط، في حالة مصلحة ما تقدم خدمات مباشرة للجمهور وتم تطوير العمل بها وإدخال أحدث برامج التكنولوجيا لكن موظفيها ما زالوا يتعاملون مع الجمهور بالخلفية ذاتها التي كانوا عليها من قبل. صحيح أن دورة العمل ستختصر، لكن التعقيدات ستظل وسيواجه الجمهور المشكلات نفسها مع تغيير في الشكل فقط. فبدلا من أن "الأستاذ فلان غير موجود ومطلوب توقيعه" سيسمع أن "السيستم بطيء" أو الأجهزة تحتاج إلى إعادة تشغيل. وهكذا، نجد أن البشر يظلون الأساس وما التكنولوجيا إلا مجرَّد وسيلة تطوير ورفع كفاءة أداء. ربما كان التطبيق الأمثل لمبادرات التطوير التكنولوجي هو في الدول التي بها تراكم تاريخي لنظم العمل.
غالبا ما كان أمثالي، القادمون من بلدان منطقتنا، يسخرون من ذلك النظام في بريطانيا حين نتعامل مع الموظفين، سواء في الحكومة أو القطاع الخاص. ولطالما كنا نتندر بوصفهم بأنهم يتصرفون "مثل الروبوت" ويتقيدون بالنظام بشكل يكاد يكون أعمى. لكننا بعد ذلك أدركنا أن هذا "النظام" هو سبب تقدم بريطانيا وأمثالها، وأن تصرف الناس حسب القواعد والالتزام بها تماما هو ما يضمن استمرار تلك البلاد في مصاف متقدمة حتى لو تراجعت ظروفها الاقتصادية أو غير ذلك. كان هؤلاء حتى قبل التحوُّل الإلكتروني الواسع يعملون ويتصرفون بشكل آلي "أوتوماتيكي" إلى حد كبير. بينما في مجتمعاتنا نلجأ إلى استخدام "الفهلوة" ومحاولات الالتفاف على القواعد بادعاء "سرعة التصرف" أو "تسهيل" الأمور. مع عقلية النظام، يفيد التطور التكنولوجي واستخدام الحلول الإلكترونية في زيادة الكفاءة ونحسين الأداء. أما مع طريقة الالتفاف على النظام بدعوى "تشغيل الدماغ" فلن يفيد التطوير التكنولوجي، بل سيصبح وسيلة لمزيد من كسر القواعد. وطبيعي أن مسألة النظام تحتاج إلى تراكم، لكن كما يقول المثل: أن تبدأ متأخرا خير من ألا تبدأ.
لذا، من المهم أن نعمل على تأهيل الموظفين والعاملين على التزام "النظام" جنبا إلى جنب مع استخدام "التكنولوجيا". وليكن الاستثمار في البشر بالقدر نفسه مثل الاستثمار في التكنولوجيا، وإلا فلن نحصل على المردود المرجو للتحوُّل التكنولوجي مهما كانت حداثة البرامج والشبكات. فالنظام يعني أن يتصرف الموظف بقدر من الحيادية ربما يقربه من البرنامج الذي يستخدمه. لكنه في الوقت نفسه يستبعد كافة المعوقات من "هوى النفس" أو "الأحكام المسبقة" أو الرغبة في التجاوز. والتعود على النظام أكثر فعالية من تطبيق العقوبات والمكافآت لضمان سلامة أداء البشر. من السهل الحصول على التكنولوجيا، مهما كانت كلفتها ففي النهاية تشترى بالمال. لكن البشر هم الثروة الأهم والأبقى وهم عماد النظام.