علي بدوان:
كان الفعل الفلسطيني، وما زال حتى الآن، وما زالت تفاعلاته قائمة على الأرض، في كلِّ إنجاز يتم بناؤه على يد الشعب العربي الفلسطيني في الداخل والشتات. حيث المواجهة الكبرى التي لم تنقطع سبلها منذ ما قبل نكبة العام 1948 وحتى الآن. ولن يهزم عندها شعب يقاوم الاحتلال منذ قرنٍ ونيف، ولن تكسر السجون والمعتقلات إرادة الحياة عند الشعب العربي الفلسطيني في كفاحه المفتوح على كل الأفاق.
وهكذا، إن تحرير بعض الأسرى وخروجهم من سجون الاحتلال، ولو لوقتٍ لم يكن طويلًا، كان بمثابة زخمٍ هائل في مسار الكفاح الوطني الفلسطيني المُتعدد الأشكال والأنماط، إنه بمثابة "القابلة" التي تعمل على إنتاج التاريخ الكفاحي الفلسطيني المُتجدد. وتحديًا فلسطينيًّا للاحتلال وبطشه، ومعتقلاته التي يرزح بين جدرانها وزنازينها نحو خمسة آلاف أسير فلسطيني على امتداد أرض فلسطين التاريخية. وقد قررت الحركة الوطنية الأسيرة في سجون الاحتلال "الإسرائيلي"، البدء لترتيب مواصلة خطواتها في مواجهة الإجراءات الانتقامية التي تقوم بها مصلحة سجون الاحتلال، بما يشمل الإضراب عن الطعام. فالأوضاع داخل المعتقلات مقلقة، وحجم الاعتداءات على المعتقلين من قبل جيش الاحتلال كبير، وأصبح لا يطاق، من إجراءات عقابية بحق الأسرى، بينها اقتحام السجون والتنكيل بهم والاعتداء عليهم، ونقلهم إلى من سحون إلى سجون.
لا يهم إن تمت عملية إعادة إلقاء القبض على الأسرى المحررين الستة من سجن (جلبوع) سيء الصيت والسمعة، من قبل الاحتلال وقواته، وإعادة زجهم في معتقلاته بأحكامٍ قاسية هي أحكام (المؤبدات)، لكن المهم أن الإرادة الفلسطينية، انتصرت، وراكمت جهودها وكفاحها، وأبلغت الطرف المعادي برسائلها الفصيحة، والتي تقول إن كل أشكال المقاومة والعمل المقاوم ستبقى عنونًا لا يُمكن الانتقاص منه، أو الإقلال من شأنه. فقد تعددت كل أشكال المقاومة، وفق المعطيات الزمانية والمكانية، ووفق المتاح، بالبندقية، والحجر، بالصوت والصورة، والملصق، والكلمة، والاعتصام، والإضراب العام، وصمود الأسرى وتحديهم لقوة وبطش الاحتلال داخل المعتقلات والزنازين التي شَهِدت انتفاضاتٍ عدة، عُرِفت بـ"انتفاضات السجون"... وكل أشكال العمل الجماهيري السلمي، كما يجري الآن في أكثر من مكان في الضفة الغربية والقدس وعموم فلسطين من بحرها إلى نهرها، وعلى أرض الجولان العربي السوري المُحتل، مقاومة في الصمود والبقاء، وفي مواجهة عمليات تهويد الأرض وابتلاعها. إنها أساليب وأنماط الكفاح المُتعددة الأشكال، وبالوسائل والأدوات المُختلفة، وهي في جوهرها تأكيد على رفض الاحتلال والتمسك بالأرض والهوية، والانتماء...إنها تكتيكات كفاحية في خدمة الاستراتيجية الوطنية العامة.
النضال الشعبي والسلمي، ومنه كفاح الأسرى الذين حولوا إلى السجون والمعتقلات إلى أكاديميات لبناء الكوادر المُجربة، شكل من أشكال الكفاح الوطني، يؤمّن مشاركة أوسع لكل إطارات الشعب في مواجهة الاحتلال حتى من داخل المعتقلات، وقد مارسته شعوب العالم في بلدانٍ كثيرة كانت واقعة تحت نير المُستعمرين، وقد لجأت إليه كخيارٍ مُفضّل نظرًا للاختلال الهائل في ميزان القوى العسكرية حال اتجهت للكفاح المسلح وحده دون غيره من أنماط وأساليب الكفاح الوطني. حدث هذا في جنوب إفريقيا (روديسيا سابقًا)، حيث كافح وناضل أبناء الأغلبية السوداء من المواطنين الأصليين أبناء البلد تحت قيادة حزب المؤتمر الإفريقي بشكلٍ سلمي ولأكثر من 99 عامًا، إلى حين توّج كفاحهم بالانتصار، وانهيار نظام الأقلية ونظام الأبارتهايد. وانتصار مبدأ "الصوت الواحد للشخص الواحد".
إن تلك المؤشرات تحمل دلالاتها القوية بأن هذا الميدان من العمل الكفاحي لمواجهة الاحتلال بكل الأشكال الممكنة والمتوافرة بيد الشعب العربي الفلسطيني، ككرة ثلج تتعاظم ولو ببطء مع كل إنجاز جزئي، فهي فعل تراكمي وتضامني وتشاركي، ورافعة من روافع المقاومة المتعددة الأنماط بيد الشعب الفلسطيني في ظل الاختلال الهائل في موازين القوى العسكرية على الأرض لصالح الاحتلال. لكنها لن تكون خاتمة المطاف، وميزان القوى مُتغيّر ولا يبقى جامدًا، بل إن الكفاح الوطني يدفع وبالمراكمة على إعادة "تقليم أظافر الاحتلال" وإرغامه على الاستجابة لقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
أخيرًا، لقد انتصرت إرادة الأسرى، حتى لو تم إعادة إلقاء القبض عليهم وإعادة زجهم بالمعتقلات، ولن تنفع الدعايات التي يبثها الاحتلال عن تواطؤ بعض سكان مدينة الناصرة مع جيشه لبث التفرقة بين أبناء الشعب الواحد، فقد ردّت مدينة الناصرة عاصمة الجليل داخل المناطق المحتلة عام 1948 بصوت أهاليها العالي، قائلة: "لو علمت الناصرة بوجودكم لفرشت الأرض سنابل".