جودة مرسي:
شاركت حديثا في موكب جنائزي خصني وخص أبنائي، لم يعترف بتحذيرات كورونا المعرف بـ"كوفيد 19" وقد بدأ الموكب بالعديد من السيارات التي واكبت الموكب بداية من المشفى لتصل إلى موقع المقبرة، فيترجل الحاضرون بعد صلاة الجنازة مسرعين بالموكب وعروسه إلى مرقده الأخير، ووقفت مشدوها لما يجري من أحداث تلف المكان وعيني تتناقل وهي تتناقل لتسجل كحدقة الكاميرا المبللة بالماء ولم تجد إلا أناسا تثاقلت بهم الأحزان فارتفع صوت البكاء مختلطا بأصوات أخرى ملهمة بالصبر تدعو وتكرر في الدعاء، إلا أن أكثر الأشياء التي لفتت انتباهي وسط هذا العويل تلك الأسماء المدونة على قطعة صغيرة من الرخام فوق القبور لتعرف بساكنيها وكأنها هوية أصدق من كل الهويات، إنها هوية وثيقة السفر التي تصدر لمرة واحدة وتكون ذهابا بلا عودة مرة أخرى، هوية يريد منك صاحبها أن تدعو له وليس شرطا أن تكون قريبا له أو أحد معارفه، ثم جاء صوت بعيد وسط الكتل البشرية التي تزاحمت يدعو للمتوفى ولأموات المسلمين.. وترجل الناس بعد ذلك كل في طريقه حتى أتى تجمعهم مرة أخرى في المساء، ولم يفارقني صديق كل هذه الأحداث وهو يتساءل: كيف لكل هذه الحشود أبت أن تبتعد عن الموكب والزحام وأصرت على أداء واجب العزاء، ولم تأبه لتحذيرات واحتياطات وتنبيهات وخطورة كورونا؟ فقلت له يا صديقي إنها قصة الموت وعلاقته بالحياة.
إنها الصدمة وقد تكون صدمة عائلية أو صدمة زملاء، أو صدمة جيران، وقد يمثِّل المتوفى خسارة لكل هؤلاء؛ لما يمثِّله من مكانة ملأت الحياة عطاء، وقد تكون خسارة الوفاة موزعة بين الخائفين الهاربين من مواجهة حقيقة الموت وبين الأبرياء الذين تكسرت براءتهم وأحلامهم أمام مشهد جنائزي لم يكن في الحسبان، تمثل في الموت وفقدان الحبيب والرفيق الذي كان يمثل الأهل بدفئهم وحنانهم. لنصل إلى حقيقة مفادها أن الحياة ليست خبرًا، وإنما قد يكون الموت خبرًا يتجمع الناس ويتفاعلون معه؛ لأنه الحقيقة الغائبة عن الكثيرين وإن كانوا بالفعل يعلمون أنه النتيجة الحتمية لخبر الحياة.. إن الموت هو الحقيقة الفعلية المؤكدة التي تعكس لنا حقيقة الحياة، إنها علاقة شديدة التعقيد.
إن عبرة الموت والحياة ليست أنت أو أنا، ليست هي أو هو، بل هي علاقة اليوم والغد التنوع والثراء، الاختلاف والتعارض، وبينهما صراع ليس عنصريا وليس احتكاريا وليس هندسيا، يتصارع في المساحة بين الحياة والموت ليفضي إلى ما يكون يوم الحساب بدون الولوج إلى جريمة تعطيل الفكر بين حقيقة الموت والحياة.
قلت لصديقي إن التجارب علمتنا أن الحزن لا يلزم أن يكون مرتبطا عاطفيا بالمتوفى، قد يكون شخصا قريبا لا تعرفه وتحزن عليه بشدة, وقد يكون لشخص جمعتك معه العديد من الصراعات، ولكن حين نسمع خبر الموت نفجع ونصدم ونتألم، وهذا دليل آخر على لغز العلاقة بين الحياة والموت، وأن على من يحب الحياة عليه أن يعطي وجهه للنور وظهره للظلام. ولا نقف أمام فراق الموت وألمه؛ لكي لا ترتفع التكلفة النفسية فنعتزل بسببها الضوء ونعيش في خصام مع الأمل والحياة. فكما يقولون في حكم الأقوال "إن كل منتحر لا يقصد الموت أبدا، بل يفعل ذلك لتعلقه الشديد بالحياة، لكنه يطلب حياة ليست هي الحياة التي يعيشها" وكما قال تعالى في كتابه الكريم (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)) أي أن الصبر كف النفس وحبسها عن السخط مع وجود الألم، وتمني زوال ذلك الألم. ويبقى السؤال ثائرا: ما حقيقة العلاقة بين الحياة والموت؟