د. خصيب بن عبدالله القريني:
لقد أثبتت مرحلة كورونا جوانب إيجابية في حياتنا غير تلك التي عانيناها ونعانيها من جرَّاء هذا الوباء. ولعلَّ أبرز هذه الجوانب يتمثل في قدرتنا على التكيف مع متطلبات الحياة التي نعيشها، وإعادة النظر في كثير من الإجراءات التي كنا نعتقد أننا لا نستطيع تغييرها، أو اعتقادنا بأن استمراريتها لفترة طويلة تجعل منها أمرا لا يمكن تغييره، ربما كانت هذه الأفكار مترسخة في أذاهننا؛ لأننا لم نمر بتجارب شديدة القسوة مثلما مرَّت به مجتمعات أخرى في العالم، سواء كانت تلك التجارب تتمثل في الحروب (جنَّبنا الله شرها) التي خلفت أوضاعا مأساوية استطاعت تلك الشعوب من خلالها أن تأقلم نمط حياتها وفق نتائجها الكارثية، أو تلك التجارب المرتبطة بالجوانب الطبيعية كالزلازل والفيضانات وغيرها من المآسي، وربما يجب علينا هنا أن نقف وقفة تدبر وتأمل قلما نجده عند كثير من الناس، إذ يعتقدون أن الحياة تجري وفق خط ومسار واحد لا يتغير وأن النعم التي يعيشون فيها هي نعم لن تتغير ولن تتبدل، بل ويصل بهم الأمر بأن يعتبروها خطًّا أحمر لا يمكن المساس به، وكل هذه الأفكار هي في الواقع نتيجة عدم الاطلاع على التاريخ أو تجارب الأمم الأخرى في هذا الكون، وقبل ذلك عدم الإيمان بأن لا ثبات ولا بقاء إلا لخالق الكون؛ فكل شيء متغير ومتبدل، ولكن يختلف التوقيت فقط هنا وهناك.
إن ظهور مثل هذه الأوبئة أو الأزمات ـ إذا جاز لنا التعبير ـ هو نوع من إعطاء الفرصة لمحاولة البحث عن بدائل قد لا نستطيع القيام بها في الظروف العادية. فمن كان يعتقد أنه في يوم من الأيام لا يستطيع أن يقيم وليمة لعرس ابنه ويتعذر عليه مشاركة أهله وأصدقائه فرحتهم؟ أو من كان يعتقد أن أحد أصدقائه يُتوفى دون مقدرة مشاركة أهل الفقيد لمراسم الجنازة التي كانت في يوم من الأيام طقوسا عادية لا تكلف من الأمر شيئا؟
إن قدرتنا على التأقلم مع أي وضع طارئ هو السبيل لنجاحنا وتقدمنا في مختلف مناحي الحياة، ولكن الاستمرار في الاستفادة من معطيات هذه المرحلة هو الرهان الذي يجب علينا الاستفادة منه أكثر من غيره؛ إذ تبدلت وتغيرت جوانب كنا نخال أنها لن تتغير، وأنها تحتاج إلى سنوات ضوئية لتغييرها وتقبل الناس لها، وخصوصا في المجالات المرتبطة بالأفراح ذات السمة المرتبطة بعادات الإسراف السيئة، إذ أثبتت جائحة كورونا أن العدد الكبير من المدعوين لم يكن له داعٍ، وأن المبالغ التي كانت تصرف على ولائم تُرمى في سلَّة المهملات لم يكن ذا مغزى، وكان الأولى أن يستفيد منها العروسان لتكملة جوانب مادية أخرى، وأن الاقتصار على وجود العائلة وأقرب الأصدقاء هو الخيار الأفضل بعيدا عن مواضيع الإسراف المهلكة ذات المظاهر الخادعة. وقس الأمر على جوانب أخرى اقتصادية وتعليمية، حيث أثبت نظام التعليم عن بُعد وخصوصا في المراحل الجامعية نجاعة منقطع النظير، ساعدت على تحفيز الكثير من الكليات والجامعات على تبنِّيه مستقبلا ولو ضمن برامج دراسية محددة لا يتعارض اكتساب مهاراتها مع ما تسعى له تلك المواد من أهداف.
إن قدرتنا على الحفاظ على هذه المكتسبات الإيجابية وتعزيزها هي الانتصار الحقيقي في معركتنا ضد وباء كورونا، وإن استفادتنا إيجابيا من نتائجها هو الهدف الأسمى رغم ما عانينا منه من أهوال جسدية ونفسية وما خسرناه من أرواح بشرية ومصاعب اجتماعية واقتصادية وتعليمية وغيرها. أما مسألة الرجوع للمربع الأول فهي ـ بلا شك ـ تعد خسارة من مختلف الزوايا، وهي أشد وطأة من تلك الخسائر التي ذكرتها آنفا، فإذا لم نحسن الاستفادة والتطوير والبناء على ما تم تحقيقه والاستفادة من الدروس التي خلَّفتها الكارثة فلن نتعلم شيئا في قادم السنين، فالحياة هي تراكم خبرات، والذكي من يستفيد من تجاربه وتجارب غيره.