د. رجب بن علي العويسي:
لعلَّ المتتبع لملف تسريح العمانيين من الشركات ومؤسسات القطاع الخاص يجد أنه قضية إنسانية وطنية أخلاقية من الدرجة الأولى، لذلك يجب أن تكون قراءته والتعاطي معه من هذا المنظور الإنساني، للوصول إلى معالجة جادة مبنية على عدالة الواقع، وصدق الضمير، وأمانة المسؤولية، وحس المواطن، ومع ذلك فإن إشارتنا إلى القانون إنما تعكس صورة نموذجية عملية في تعزيز كفاءة القانون في رسم الخيوط الأساسية لهذا الملف، وإعادة تصحيح مسار هذه القضية التي باتت تدخلها الشخصنة وتتعاطى مع الأنانيات وتقر نتائجها أمزجة البشر، وتتداخل فيها المفاهيم المغلوطة والأفكار الأحادية، ومسار حقوق أرباب العمل والعامل، وعقود التوظيف الوقتية وتقبل نتائجها، وبالتالي حلها في إطار قانوني لا يتنازع عليه اثنان، وعبر تقنين هذا الملف وضبطه ومنع كل الاستثناءات الشخصية من التدخل فيه، وهو الأمر الذي يمكن من خلاله ضبط ومراجعة كل المبررات والحجج التي باتت تعتمدها الشركات في تسريح الكفاءة العمانية، لتضع منه مبررا لفعلها، وطريقها لإجازة صنيعها، أو التغطية على إخفاقاتها وسوء إدارتها لتضع المواطن البسيط شماعة للتسريح والهروب من المسؤوليات والالتزامات، سواء ما يتعلق منها بجائحة كورونا، أو الأزمة المالية، أو ركود سوق العمل، أو توقف المشاريع الحكومية التي تنفذها هذه الشركات ليكون تسريح الكفاءة العمانية الأمر السهل، والضرر الأخف من وجهة نظر أصحاب الشركات ومؤسسات القطاع الخاص.
كنت في أحد مقالاتي السابقة قد وصفت مسلسل التسريح الممنهج بأنه انتحار للكفاءة العمانية، وأصفها اليوم بأنها جريمة في حق الإنسان؛ لأن إطلاق مفهوم الجريمة عليها في تقديرنا الشخصي بات أنسب وصف، فإنّ التصاق الجريمة بالتسريح تعبير عن مخاطر هذا التصرف والتجاوز الحاصل على معيشة الإنسان وحياته، وأمنه الوظيفي والاقتصادي، وما فيه من إيذاء للمسرَّح ومن يعوله وضرر بهم، وخروج عن كل القواعد والأعراف، والقرارات التي اتخذتها الحكومة في منع هذا التسريح، وتبنِّي مداخل أخرى في احتواء الواقع بما يحفظ كرامة المواطن، ويصون حقه في العيش والحياة الكريمة، فهي جريمة وانتحار واغتيال لحق العمل، والأمل، والابتسامة، والسعادة، والحب، والأمان، والإنسانية، بما تتركه من آثار نفسية، وتسببه من ضلال فكري، وانهيار عصبي، ونزوغ إلى الذاتية، وتنمر من الواقع، والشعور بحالة من الإحباط واليأس، والغربة من الواقع الاجتماعي، ليس على الفرد المسرَّح فحسب، بل على كل من يعوله، من أبوين وزوجه وأبناء وغير ذلك، ولكون المسألة تعدت حدود الوقتية حتى أصبحت ظاهرة مجتمعية، أكلت معها الأخضر واليابس، ونهشت في موارد هذا المجتمع ونسيجه الاجتماعي، لتموت في هذا التصرف الضمائر الحية، والإنسانية الراقية، وتبرز فيها المصالح والأنانيات التي تتنكر لكل الفرص والموارد والثروات التي يتمتع بها هذا الوطن، بمبررات واهية تنسف كل القِيَم، وتقف في وجه الأخلاق.
وعليه يطرح ملف تسريح الكفاءات العمانية اليوم الكثير من التساؤلات، ويضع علامات استفهام كبيرة حول الجهود الوطنية المبذولة في التعامل مع هذا الملف، في ظل التداعيات الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والوطنية التي تترتب على هذه الممارسات، سواء على حياة الفرد والأسرة والمجتمع، أو كذلك على جهود الحكومة التي تضع كامل ثقلها في قراءة المستقبل على دور القطاع الخاص في استيعاب العمانيين، وتوفير الضمانات التي تتيح لهم مساحة ثقة أكبر في البقاء في هذا القطاع، خصوصا مع توجُّه الحكومة نحو إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وما اتخذ في هذا الشأن من إلزامية التقاعد الإجباري للعديد من الفئات الوظيفية في مؤسسات القطاع المدني والعسكري والأمني، وترشيق الجهاز الإداري للدولة عبر دمج بعض الوزارات والهيئات والمجالس في وزارات محددة بما يمنع كل أشكال الترهل الوظيفي، والحدِّ من تنازع الاختصاصات، وتداخل المهام، وازدواجية الأعمال، الأمر الذي أدَّى إلى وجود فائض في الكفاءات الوظيفية والخبرات السابقة، بما ينعكس على عدد الوظائف الشاغرة في القطاع الحكومي المدني، وبالتالي كان التوجُّه أن يقوم القطاع الخاص بدور المساند للحكومة والمنقذ للمواطن في استيعاب ملفات التوظيف والتشغيل، ليصبح مسار التسريح بطريقته الحالية هدرا لكل الامتيازات والجهود الوطنية التي قدمتها الحكومة للقطاع الخاص، وعملت على أن يكون قوة داعمة للمواطن، يمارس دورة بكل كفاءة تحقيقا لاستراتيجيات الحكومة والخطط الوطنية.
وبالتالي لم تكن الدعوة إلى إيقاف مسلسل التسريح كافية بما يحفظ للشباب العماني الكفء حقه في الحياة والعيش والعمل والإنجاز والعطاء وبناء خبراته ورعاية أسرته وحقوق العمل الأخرى، بل أيضا الدعوة إلى مراجعة كل التشريعات والقوانين والأنظمة التي باتت تدعم الشركات ومؤسسات القطاع الخاص في هذا التصرف، وحالة الاستثناءات أو الثغرات التي يستند إليها القطاع الخاص في تبرير فعله، أو إقرار حالة التسريح، وعبر توجيه مسار الإنتاجية والضبطية والرقابية في هذه القوانين النافذة على الشركات والقطاع الخاص بشكل يلزمها بالاحتفاظ بالكفاءة العمانية، وإعادة ترتيب أوضاعها الاقتصادية بطريقة تحفظ مسيرة التوازن في عملها، وإعادة هيكلة أدائها في ظل قراءة جديدة لحجم الامتيازات والحوافز والمكافآت المقدمة للرؤساء التنفيذيين والمستويات الوظيفية العليا من جهة، وإعادة مراجعة وجود الأيدي العاملة الوافدة في الوظائف العليا أو الوظائف الهندسية والإشرافية في هذه الشركات، إذا ما نظرنا إلى موقع المواطن العماني في المعادلة الوظيفية بهذه الشركات، ويصبح على الحكومة أن تمارس دورها الضبطي والرقابي في مساءلة هذه الشركات، وتحمل نتائج عدم التزامها بمنظومة العمل والتشغيل الوطنية، وعبر قرارات تضمن منع تسريح المواطن العماني، وأن يكون اتخاذ قرار التسريح بناء على قرار وطني وفق ـ لجنة عليا معنية بالتوظيف والتشغيل والتسريح ـ تقوم بمهمة رسم السياسات والخطط والبرامج، ومراجعة كل الجهود الوطنية في هذا الشأن، وتقف على كافة الممارسات المتبعة، والمبررات التي يقدمها القطاع الخاص، ولها الصلاحيات الضبطية والرقابية والمهنية والقانونية في متابعة أي مؤسسة تمارس أدوارا استفزازية على الكفاءة الوطنية، كما تكون من مسؤولياتها عدم تنفيذ أي حالة من التسريح إلا بناء على اشتراطات ومعايير ومبررات تقرأ من خلالها مبرر التسريح، ومستوى ارتباطه بإنجاز الموظف، وتقييم أدائه والكفاءة المهارية والمهنية لديه، مع الأخذ في الاعتبار تدريب الموظف وتأهيله، وصقل مهاراته وتعزيز قدراته وبناء خبراته وتعريضه للعديد من المهام العملية التي يمكن خلالها الحكم على كفاءته الأدائية من عدمه، ومع ذلك تبقى مساحة البدائل والخيارات المتاحة للمواطن واسعة كانتقاله إلى وظيفة أخرى، أو إتاحة الفرصة له للانتقال إلى مؤسسة اقتصادية أخرى تتناسب مع ميوله واهتماماته والمهارات التي يتقنها.
من هنا، يبقى ملف التسريح هاجس مواطن، يتحمل في ظل استمراره الكثير من الآلام والأحزان والمنغصات، وعقبة كبيرة أمام كل التفاؤلات بانقشاع غيمة التوظيف والتشغيل، في ظل الأوامر السامية لجلالة السلطان المعظم بتشغيل المواطنين، وينذر بمفاجآت سلبية تعيد مسار الهدر في الموارد، وانتظار الوظيفة الحكومية إلى الواجهة، إن لم يتم تدارك الأمر ومراجعة أساسيات هذا الملف وأسبابه؛ فإن نجاح الجهود مرهون بتدخل جادٍّ من الحكومة في حسم قضية التسريح، ومتابعة تفعيل العمل بالقوانين النافذة، ومنع حالة الاستثناءات الحاصلة للمتنفذين، وفرض سياسة الأمر الواقع على الشركات في التزامها بالقرار الوطني الموجَّه نحو معالجة هذه القضية؛ فهل ستؤدي العودة المتسارعة لواقع التسريح إلى قراءة جادَّة لهذا الملف، ومعالجة جذرية له تضع اليد على كل الأسباب والمسببات والقناعات والتكهنات التي باتت تروّج لهذا السلوك في مؤسسات القطاع الخاص، وتضمن أن يكون التعامل مع ملف التسريح من خلال الحكومة للمحافظة على سقف الإنجاز الوطني المتحقق في هذا الجانب. في تقديرنا فإن وضع هذا المنطق في أجندة عمل الحكومة، وإعادة تأسيس القوة القانونية والضبطية له، سوف يضمن استفادة المواطن من جهود الاستثمارات الخارجية التي تتجه إليها السلطنة، وينظر إليه بتفاؤلية أكبر، واستبشار بأن هذه الاستثمارات رافدا أساسيا للمواطن في ظل ما تفتحه له من فرص عمل قادمة.
أخيرا، يبقى التحدي القادم في ملف التسريح، هو كيف تضمن الحكومة تقديم خدماتها ورعايتها للمواطن المسرح من عمله بما يكلّف الحكومة جهدا ماليا آخر يضاف إلى منظومة الضمان الاجتماعي التي تعمل الحكومة على إعادة هيكلتها من جديد، ومدى قدرة نظام الأمان الوظيفي على تغطية كل النفقات؟ والأمر الآخر كيف تستطيع الحكومة من جديد أن تقنع الشباب العماني بالتوجُّه نحو انخراطه في القطاع الخاص في ظل هذه الظروف الصعبة التي يعيشها، وممارسات التسريح التي اتجه إليها القطاع الخاص، وأن الوظيفة في القطاع الخاص تمثل مسارا آخر يتناغم مع الوظيفة الحكومية، وأن القطاع الخاص بيئة أعمال وطنية داعمة للاقتصاد ومحافظة على الكفاءة العمانية، وأن القطاع الخاص سند الحكومة في تنفيذ رؤية "عُمان 2040" وتحقيق الاستثمار ورفع مستوى الدخل اليومي لدى المواطن العماني؟ نعتقد بأن الإجابة عن هذه التساؤلات وإقناع المواطن بها بحاجة إلى فعل حقيقي على الأرض، وتصبح مصداقية القطاع الخاص على المحكِّ في احتواء الكفاءة العمانية، في حين أن واقع التطبيق غير ذلك تماما.