يمثِّل التراث الماضي الضمير الحيَّ في وجدان الأمم، فهو يفرض وجوده في الحاضر ويباشر تأثيره فيه، وهو مجمل ما بقي حيًّا من تاريخها المادِّي والمعنوي، ويقع تحت مصطلح التراث الموروث الثقافي والاجتماعي والمادِّي، المكتوب والشفوي، الرَّسمي والشَّعبي، اللُّغوي وغير اللُّغوي، الذي وصل إلينا من الماضي البعيد والقريب. فالمقصود هنا ليس المادِّي فقط كالعمران، لكنَّه يشمل أيضًا الأخلاق والعادات والتقاليد والأذواق والآداب والعلوم والفنون والعلاقات الاجتماعيَّة والمواقف النفسيَّة والرُّؤى الذهنيَّة للعالم والحياة. إنَّ التراث يبعث في النُّفوس طاقة روحيَّة شبيهة بالسحر، يولدها التراث في عقول النَّاس والجماهير نظرًا لما يزخر به التراث من مفاهيم وتصوُّرات وأفكار وعقائد وأساطير وعادات وتقاليد، تبرز التاريخ التليد لهذه الأمَّة أو تلك.
والسلطنة تُعدُّ من الأُمم القليلة التي سَعَت إلى دمج الماضي البعيد بكُلِّ ما يُجسِّده من معانٍ وقِيَم لا تزال في النُّفوس العمانيَّة، قَبْل أنْ تكون حاضرةً في المباني والآثار. فالتراث العماني كان ولا يزال جزءًا من الهُويَّة الوطنيَّة المحفورة في نُفوس العمانيين كافَّة، فأبناء وبنات عُمان برغم سعيهم للتعاطي مع كُلِّ ما هو حديث من تقنيات، إلَّا أنَّ غرس الهُويَّة الوطنيَّة والحفاظ على العادات والتقاليد الموروثة كان جزءًا من تكوينهم النَّفْسي، حيث مزجت الحداثة والتراث دون خَلَل أو إخلال، وذلك إيمانًا بأنَّ الحفاظ على التراث والهُويَّة يعبِّر عن وجود الإنسان، واستطاعت السلطنة أنْ تكسب الرهان في تحدِّي ثنائيَّة الأصالة والمعاصرة، وهذا الأمر وحْدَه الذي يمكن أنْ يفسِّر نضج الشخصيَّة العمانيَّة في تعاطيها مع خطِّ الأحداث من حولها، وكذلك في قدرتها على التمسُّك بعاداتها وتقاليدها، والفخر بها، لكن أيضًا مع قدرة كبيرة على استيعاب كُلِّ المتغيِّرات التي يشهدها العالم.
وأنجزت السلطنة العديد من خطط التنميَة المتتابعة التي حافظت على مكانة التراث الثقافي العماني، حيث كانت عمليَّة المحافظة على ذلك التراث، والعمل على تطويره وتحقيق الاستفادة منه أحد أهم الأهداف التي سعت تلك الخطط إلى تحقيقها. فجهود السلطنة لم تتوقف على الاعتناء بالتراث إيمانًا منها بدوره المعنوي في غرس الهُويَّة والوطنيَّة، لكنَّها واصلت جهودها لتوظيف هذا التراث الثري والحافل اقتصاديًّا، حيث تُعدُّ السياحة التراثيَّة من أحد المقوِّمات السياحيَّة في البلاد، حيث ركَّزت ـ على سبيل المثال ـ على الحارات القديمة التي تضمُّ مكوِّنات كثيرة تشكِّل عناصر مهمَّة كالأسواق والمساجد والمنازل التقليديَّة والأماكن للصناعات التقليديَّة، وعملت على ترميم العديد من تلك الحارات.
وإحدى صُوَر هذا الاهتمام يتجسَّد في حارة العقر التي تقع داخل حدود سور بهلاء التاريخي الدفاعي الذي يبلغ طوله 12 كم، وهو ذو تحصينات عسكرية محكمة، والتي (الحارة) تلتصق بمركزين حضريين هما حارة "الغزيلي" وحارة "الحوية" وتحتفظ بهُويَّتها وموقعها الجغرافي المحدَّد، وتُعدُّ أكبر حارة سكنيَّة في بهلاء، وربَّما واحدة من أقدمها، فضلًا عمَّا تعكسه من تواصل إنساني بين الأجيال المتعاقبة، وحياة إنسان حاول التفاعل مع محيطه بطبيعته المتعارف عليها. وتُعدُّ الحارة أحد الأنماط الاجتماعيَّة والثقافيَّة التي أوجدها العُمانيون بتصوُّرات متناغمة.. والمتتبع لتاريخ هذه الحارة العريقة سيجد استحالة تحديد التاريخ الدقيق لاستيطان العقر على نحْوٍ أكيد دون إجراء تنقيب أثري موسَّع أو الاستعانة بمصادر أرشيفية وافرة، بَيْدَ أنَّ ثمَّة دليلًا يظهر من بقايا المدافن في موقع المسجد الجامع على أن هذه المنطقة كانت مسكونة قبل الإسلام. وتشير التنقيبات التي أجرتها المؤسَّسات المعنيَّة بالتراث في يناير 2003م، والتي أجريت في المسجد الجامع، الذي يقع على البروز الصخري نفسه الذي تقع عليه القلعة، إلى أنه قد يكون واحدًا من أقدم مواقع المساجد في عُمان. إنَّ الاهتمام بهذه الكنوز التراثيَّة وتطويرها يمثِّل إحدى وسائل إثراء السياحة في السلطنة، وهو ما يجب أنْ يتواصل العمل به.