د.أحمد بن علي المعشني:
كنت في زيارة إلى سنغافورة في عام 2016 مع وفد من مُلّاك المدارس الخاصة بالسلطنة، واستطعنا في غضون خمسة أيام أن نزور عددًا من المدارس الخاصة ورياض الأطفال، والتقينا بالعديد من الأكاديميين والمربيين في مختلف المراحل.شاهدنا كغيرنا مسيرة تطور تلك الجزيرة المعجزة التي استطاعت أن تتبوأ مستوى عالميًا متقدمًا في جودة التعليم بمختلف مراحله من الروضة حتى الجامعة.عندما كنا نزور المدارس ومؤسسات التعليم العالي، نرى أمامنا أشخاصا عاديين يلبسون بدون تكلف، ويظهرون التواضع كأسلوب حياة، ويستمعون إلى ضيوفهم باهتمام بالغ.يسألون كثيرًا، يُظهرون الاهتمام والشغف لمعرفة الكثير، وعندما زرنا المتاحف الثقافية والحدائق العامة والمنتزهات، لاحظنا كيف تعمل المعجزة التي يعمل أبناؤها في جميع مرافقها؛ من عامل النظافة إلى الوظائف المتقدمة.يتبنى الجميع مبدأ الجودة، ويعرف الجميع معايير الأداء ويحظى كل مواطن بميزانية سنوية لتدريبه على نفقة الحكومة، فالجميع في سباق من أجل إتقان العمل، هنا يسكن هاجس الجودة عقول وأفئدة الجميع باعتباره قدرًا وطنيًا.لفت نظري أيضًا أن كثيرًا من المباني المدرسية لديهم متواضعة وضيقة وبعضها طبعا واسع ومجهز بمرافق ومختبرات على أعلى مستوى، لكن السمة المشتركة لدى تلك المؤسسات أن الجميع يحب التعليم.يغدو الأطفال إلى مدارسهم بشغف أكثر من الشغف الذي يجذبهم إلى المنتزهات وأماكن الألعاب، وعندما سألت عن السر علمت أن تلك المدارس تحظى بمعلمين تضعهم الحكومة السنغافورية في منزلة عالية من التبجيل والتقدير، وبالتالي فهم يعلمون بشغف ويتفننون في استخدام أساليب ذكية في تعليم العلوم والرياضيات، ويبنون مناهجهم بأساليب مثيرة، الأمر الذي جعل سنغافورة وجهة يقصدها خبراء التربية والتعليم من أميركا وبريطانيا وفرنسا..وغيرها من الدول المتقدمة لدراسة الطريقة السنغافورية في تعليم الرياضيات والعلوم تحديدًا بل ويكرس الكثير من علماء النفس والتربية جهودهم البحثية، للوقوف على العوامل التي ساهمت في تميز التعليم في هذه الجزيرة التي لا تزيد مساحتها عن 700 كيلومتر مربع، وكانت حتى عام 1968 فقيرة ومعدمة، تستورد الماء والطين من البلدان المجاورة.أدركت أن التميز يصنعه معلمون يتم اختيارهم من بين أميز 30% من مخرجات شهادة دبلوم التعليم العام (الثانوية العامة).يخوض الراغبون في مهنة التعليم اختبارات في الشخصية والذكاء والقدرات، ثم يتم انتقاء الأكثر استعدادًا وتميزًا ليكونوا معلمي المستقبل، ويتم تعيينهم منذ لحظة قبولهم في المعهد الوطني لإعداد المعلمين، ويعفون من التقاعد، وتتاح لهم الفرصة لاستكمال نموهم المهني بدون قيود للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه، ويتقاضون رواتب تفوق المتوسط الوطني للأجور.ويشركون في تصميم سياسات التعليم وفي بناء وتصميم المناهج، بل تتاح الفرصة لهم لاستلام مراكز قيادية في وزارة التربية وفي إدارة المدارس ومؤسسات التعليم المختلفة بصرف النظر عن مدة خدمتهم، وفقًا لمعايير تتيح المنافسة الشريفة لجميع المتقدمين الأمر الذي يفرز أفضل العناصر لقيادة زمام التعليم.ومن أجل دعم استمرار النمو والتطوير تتبنى سنغافورة كلمة مؤسسها الفذ (لي كوان يو) عندما خاطب المعلمين عام 1977 قائلا: تعريفي للرجل المتعلم، هو رجل لا يتوقف أبداً عن التعلم ويريد أن يتعلم.أدركت أنا وزملائي أعضاء الوفد أن كل شعب يستطيع أن يصنع المعجزات متى توفرت الإرادة الوطنية وآمنت القيادة بقدرات شعبها ومنحته المساواة والثقة.

* رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية ـ مؤسس العلاج بالاستنارة (الطاقة الروحية والنفسية)