نجوى عبداللطيف جناحي:
في زمن (الكورونا) انقلبت الأحوال المادية للمئات من الأسر في جميع أنحاء العالم، حينما أفلست بعض الشركات فاستغنت عن الموظفين أو قلَّت إيرادات بعضها فاضطرت لإنهاء عقود العديد من الموظفين، فخسرت الأُسر المموِّل الرئيسي لها، ومصدر دخل الأسرة قد توقَّف فانقلبت أحوال الأُسر من الغنى إلى الفقر بين ليلة وضحاها. ولك أن تتخيل ما هي التبعات التي وقعت على الأُسرة بعد هذا التغيُّر، فعجز البعض عن دفع إيجار السَّكن، أو دفع حقوق المقاول الذي شرع في بناء منزلهم الجديد، أو دفع رسوم الدراسة، هذا علاوة على تخفيض مصروف المنزل، حتى انطبق عليهم توجيه رسولنا الكريم لأُمَّته بأن يرحموا الغني الذي افتقر. ذلك الحال ينطبق على المئات وربما الآلاف من الأُسر في جميع أنحاء العالم. وكم خلَّفت جائحة (الكورونا) عاطلين بعد أن كانوا في وظائف مرموقة برواتب عالية، ولا يكمن الألم في فقد مصدر الرزق، بل في معاناة أخرى كالفراغ، والإحساس بالتهميش، والعودة للبحث عن العمل من نقطة الصفر بعد أن قطعوا شوطا في مشوارهم الوظيفي.
ولكن لَفَتَ نظري عاطلٌ عن العمل أضاف إلى همِّه همًّا آخر، فقد اعتاد أن يتصدق على بعض الأُسر، ويكفلهم، فكم كان مؤلمًا له أن يقطع هذه المساعدات، وبات يشعر بالانكسار والضعف وهو يعتذر لهم عن منحهم ما تعودوا أن يستلموه منهم، وكم أرَّقه أن خسر بابًا من أبواب الأجر والثواب، فقد كان يرتاح قلبه بالصدقة عندما يضيق صدره بالهموم فيؤمن أن في الصدقة ملاذًا للفرج، وكم كان يهدأ عندما يشعر بالخوف من المرض فتطمئن نفسه بالصدقة إيمانا منه بأن رضا رب العالمين بما يصنع سيحفظه من كل شر، فباتت الهواجس تضطرب في قلبه، وبات الخوف يدب في صدره. فقلت: إن الله قد أغلق باب الرزق عنك بعضا من الوقت ليبتليك إن كنت تحزن لإغلاق باب الخير عنك أم أنك لا تعبأ بانحسار هذا الفضل، فطب نفسا فآلامك هذه تدل على أنك اجتزت هذا الابتلاء، وطب نفسا فلعل الله يكتب لك بحزنك هذا أجر الصدقة فما الأعمال إلا بالنيات، وإن لم تفعل، وتذكر أن الصدقة ليس بالمال فقط، فهناك أنواع كثيرة من الصدقات لا تكلف مالا.
فأنت تستطيع أن تتصدق بابتسامة في وجه أخيك، فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَإِنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَّاءِ أَخِيكَ".
اِزرع شجرة فلك صدقة جارية، وضع الماء والطعام للطيور والحيوانات في الشوارع، تحتسب لك صدقة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)، وألْقِ التحية على الناس تكن لك صدقة، وأصلح بين الخصمين تحتسب لك صدقة، وساعد أخاك في إصلاح سيارته أو توصله إلى غايته فذلك صدقة، وأسمع الناس كلمة طيبة تسعدهم، وأكثر خطواتك إلى المسجد لصلاة الجماعة، وأمط الأذى عن الطريق، كل هذه الأفعال لها هي صدقات. فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، قَالَ تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، قَالَ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إلى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ" متفق عليه.
بل إنك تستطيع الصدقة وأنت جالس في البيت فاذكر الله وسبحه، وصلِّ صلاة الضحى تحتسب لك صدقة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة وانْهَ عن المنكر صدقة، ويجزي عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى.
فالصدقة بالمال هي إحدى وسائل الصدقات، فاطرق هذه الطرق واغتنمها، فلعلَّ الله يريد بك خيرا ليجعلك تفعل الخير في مجالات أخرى، واغتنم فراغك وأنت عاطل عن العمل في فعل الخير والتطوع لخدمة الناس يفتح الله لك أبواب الرزق، وتذكر قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب)... ودمتم أبناء قومي سالمين.