محمد عبدالصادق:
بمناسبة مرور عام ونصف على ظهور وباء كورونا، قامت فرنسا بتكريم العاملين الذين تواجدوا في الصفوف الأمامية لمواجهة الجائحة، وقررت أن تمنح الجنسية الفرنسية لأكثر من 12 ألفا من العمال الأجانب الذين استمروا في أداء أعمالهم بتفانٍ وإخلاص أثناء عمليات الإغلاق المتكررة التي رافقت كورونا، بتخفيض المدة المطلوبة للحصول على جواز السفر الفرنسي من خمس سنوات إلى سنتين، وكانت الحصة الأكبر للحاصلين على الجنسية من عمال النظافة الذين استمروا في تنظيف شوارع فرنسا ورفع القمامة والمخلفات دون خوف من انتقال الوباء إليهم، يليهم العاملون في دور رعاية المسنين لدورهم البطولي في رعاية النزلاء من كبار السن أكثر الفئات التي تعرضت لمتاعب صحية جراء كورونا، والمربيات والخادمات اللاتي استمررن في القيام بواجباتهن أثناء الجائحة.
بصراحة.. هزني الخبر ولم أتمالك مشاعري إجلالا لهذا التصرف الإنساني المتحضر من الفرنسيين، وكيف أنهم ينظرون للإنسان بتجرد، دون النظر لجنسه أو لونه أو مكانته الاجتماعية، وكيف تخلصوا من عقدة المهنة أو الوظيفة التي نعاني منها في الشرق، ففي تصرفهم السالف تأكيد على أنه ليس هناك مهنة عليا وأخرى دنيا، إنما هناك مهن مهمة ومهن أقل أهمية، وليس شرطا أن يكون أصحاب هذه المهن حاصلين على أرقى الشهادات العلمية أو يتقاضون أعلى المرتبات، لننظر لهم بتقدير واحترام، فقد نظر الفرنسيون للدور الحيوي الذي يقوم به عمال النظافة في خدمة المجتمع، فعندما حدث الإغلاق التام توقف كثير من أصحاب المهن المرموقة من وجهة نظرنا، توقف المهندسون والمعلمون والمحاسبون عن القيام بأعمالهم وجلسوا معزولين خلف أبواب منازلهم امتثالا لإجراءات الإغلاق وخوفا من إصابتهم بالمرض، ولكن ظل عمال النظافة يداومون على أعمالهم كالمعتاد، بل زادت أعباؤهم بإضافة أعمال التعقيم وتطهير المنشآت للوقاية من كورونا ومنع انتقال العدوى، والأمر الأخطر هو تعاملهم مع النفايات والمخلفات الطبية الناتجة عن مستشفيات العزل التي تستقبل مرضى كورونا.
كان الطبيعي أن تكون الأولوية في منح الجنسية للأطباء والممرضين الذين كانوا في الصفوف الأمامية في مواجهة كورونا والذين تعرض عدد كبير منهم للوفاة والإصابة جراء الجائحة، ولدورهم في إنقاذ حياة المرضى والمصابين، ولكن الفرنسيين وجدوا أن دور عمال النظافة ليس أقل من دور الأطباء والممرضين، وأنهم في حاجة للحصول على الجنسية أكثر من هؤلاء بسبب تدني مرتباتهم، وحاجتهم الملحة للتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية والخدمات الحكومية التي يتيحها لهم الحصول على الجنسية.
للأسف في بلادنا الشرقية التي نتشدق فيها بالأخلاق والتديُّن والمُثل العليا، قلَّما نجد التعاطف والاحترام اللائق عند تعاملنا مع أصحاب هذه المهن، حيث نطلق عليهم أصحاب المهن الدنيا، ولا نكترث بدورهم الأساسي في خدمة المجتمع ولا ندين لهم بالفضل في نظافة شوارعنا ومدننا المظللة بلهيب الشمس الحارقة أغلب شهور العام والرطوبة التي تخنق أنفاسنا ولا نقوى بسببها على مغادرة سياراتنا المكيفة، بينما يقف هؤلاء النبلاء قابضين على أدواتهم يذرعون الشوارع والطرقات، متواجدين على مدار الساعة يتعاملون مع مخلفاتنا ويتخلصون من فضلاتنا، يرفعون الأتربة ويزيلون الغبار عن وجه مدننا لتبدو نظيفة وجميلة في عيوننا.
حينما تظهر خانة المهنة في البطاقة الشخصية أو جواز السفر لهؤلاء الجنود المجهولين، نجد الموظفين أو مسؤولي الجوازات ينظرون إليهم بإهمال وأحيانا باحتقار، وعندما نفكر في منح الجنسية، نعطيها لنجوم الفن والرياضة أورجال الأعمال، ونتجاهل هؤلاء، ومنهم من قضى جل عمره في خدمتنا، وربما تردد على مسقط رأسه مرة أو مرتين في إجازات متباعدة بسبب ضيق ذات اليد.
التحضر والإنسانية ليس له علاقة بالغنى والفقر، فالفرنسيون ربما لا يحتلون المرتبة الأولى في العالم على مستوى الدخل، ولكنهم أكثر شعوب العالم نهما للقراءة واقتناء للكتب، وينفقون ثلث دخلهم على ارتياد المتاحف وحضور حفلات الأوبرا وعروض الباليه والموسيقى الكلاسيكية، كما يتيهون على بقية شعوب الأرض بالأناقة في الأزياء والاهتمام بالمظهر العام والصحة والرشاقة والأكل الصحي، وفي باريس تفوح من المتاجر رائحة العطور الثمينة، كما تفوح من شوارعها رائحة الزهور والأشجار والمسطحات الخضراء والتنسيق المعماري الأنيق، ربما يكون هذا سر تحضر وإنسانية الفرنسيين.