د. رجب بن علي العويسي:
كثيرة هي مفاجآت المنصات الاجتماعية، لتشعر المرء بأنها أصبحت صديقة الإنسان وصوته وبوحه، تحمل أحلامه وآماله، يتحدث خلالها إلى العالم الذي أقفل عنه سمعه، وأغمض عينيه عن حالة البؤس والألم والحسرة التي يعيشها، لتمارس المنصات الاجتماعية دور الاحتواء عندما تضيق على الناس فسح الأمل، ويعيش الناس حياة الضيق والكدر، تطرح اليوم واقعا جديدا ومساحة أخرى تضعها في قائمة اهتمام المجتمع وأولوياته؛ باعتبارها صوته الذي يسري في الأرجاء، وبوحه الذي يملأ زوايا المكان، والذي يعبِّر من خلاله عن خلجات نفسه، ومكنونات قلبه، وما يخفيه بين أضلعه. ولعل المتتبع لهذه المنصات جميعها بلا استثناء وما يطرحه المهمومون والمفجوعون والمحزونون ممَّن ضاقت بهم الحياة أو عايشوا التجارب، وغررت بهم الأيام، وعصفت بهم الأحداث، أو المتفائلون بالمستقبل رغم قسوته، وتشاؤم مؤشراته، وتدني تأثيره على حياة الإنسان الإيجابية، يقف في حالة من الذهول، ويسترعى انتباهه السر الذي جعل من هذه المنصات محاضن تحتوي أصحاب المواقف وتحاول أن تلملم جراحهم، لذلك لم تعد منصات التواصل الاجتماعي اليوم مجرد بيئات افتراضية للتعارف وإبداء الرأي، بل أصبحت تمارس أدوارا اجتماعية ونفسية أكثر مصداقية، وتدخل في عمق السلوك البشري وأدق تفاصيله.
ولعل ما تطالعنا به هذه المنصات مما يطرحه البعض من تفاصيل حياته ونكباته ومأساته، والحالات التي يمر عليها من زواج أو طلاق أو ميراث، أو خيانة زوجية، أو فتور في العلاقات الزواجية، أو مشكلات في العمل، أو كذلك بعض الأمراض النفسية والشعور بالقلق وحالات الإحباط والتنمر والظلم والمعاناة، وغيرها من القضايا التي باتت تثار بشكل واسع عبر حسابات بعض مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي على شكل تساؤلات أو استفسارات أو طلب استشارة أو نقاشات مفتوحة أو طرح قضايا ذات خصوصية أسرية ونفسية ومواقف شخصية، وقضايا تفصيلية دقيقة، تحمل في طياتها الكثير من الأحداث والمعاناة والظروف التي يعايشها واقع بعض الأفراد في المجتمع، تعطي مؤشرات أولية لاستقراء الأبعاد الخفية الكامنة وراء هذا السلوك الذي بدأ ينتشر كظاهرة عامة وليس حالة وقتية مرتبطة بشأن فردي فحسب، بما تبرزه من دواعي الصدق والموضوعية، ووصف الحالة التي يعيشها الفرد أو أحد أصحابه وأقربائه أو محبيه فيشارك همه الآخرين، ويقف على صنيعه المنتمون لهذه المنصات، ويحاول أن يسبر أعماق هذا الحدث أو الحالة التي يعيشها بما يقدم له عبرها من تضميد لجراح أو مواساة له أو رفع الدافعية المعنوية في مواجهة الواقع بدون مقابل، في شكل من الحوار العفوي المعبِّر، تلك الميزة التي أكسبت هذه المنصات حضورا أقوى، وثقة أوسع، واهتماما أكبر، وروحا متجددة، ودافعية النفس نحو قراءة الواقع، ودراسة الحالة بروح رضية وشغف العارف، لتعبِّر تساؤلاتهم عن أحداث كامنة في النفس، وتراكمات تبحث عن ضمير مسؤول، ووقفة رجل، وقراءة فاحصة تقف على واقع الإنسان وهمومه وظروفه وأحواله ومشكلاته وتحدياته، لتطرح على واقعنا: هل أصبحت المنصات التواصلية رصاصة الرحمة التي أنقذت الكثير من الأسر، أو أعادت إنتاج حياة العديد من أبناء المجتمع، عندما افتقد للصدق في مجتمعه وبين أسرته وأهله، أو من تلك المراكز التي كان يتوقع أن تقف معه، وأن تصدح بصوتها من أجله، وأن تلملم جراحه وأن تسانده في محنته، ليكتشف بأنها باتت تمارس دورا انتهازيا واستفزازيا في صور مختلفة وأشكال تعبيرية غير مأمونة، ليجد في هذه المنصات بغيته بدون مقابل، ومن يقدم خبراته وتجاربه، ويعطي تفاصيل أدق لعلاجها، حتى باتت مقصد الكثير من أصحاب الشأن وذوي الاهتمام، وأولئك غير القادرين على دفع فواتير العلاج في مراكز الاستشارات الأسرية والنفسية؟
وعليه، يمكن تأطير مسببات هذه الفجوة في دور هذه المراكز وتفوق المنصات الاجتماعية، الحلقة الأقوى في معادلة الوعي المجتمعي في التعامل مع مسار الاستشارات الأسرية والنفسية وأبعادها، في حالة الاحتواء التي باتت تمارسها هذه المنصات، وعبر إحساس الفرد بأن التعاطف الذي يجده من قِبل مستخدمي هذه المنصات، يمثِّل حالة جديرة بالبحث والاهتمام أتاحت له مساحة أمان أوسع واستراحة نفسية أكبر في حصوله على الدعم النفسي والمعنوي، وشعوره بأن هناك من يشاطره الرأي، ويقف معه في حالته، ويناصره في قضيته، وأن العالم الافتراضي الذي يعيشه مع أناس آخرين من أصقاع الدنيا المختلف، استطاع أن يقدم له إجابات مقنعة لتساؤلاته، أو تفسيرات دقيقة لأحلامه، ما لم يستطع يقدمه له الواقع المعايش (مؤسسات المجتمع التعليمية والثقافية والاجتماعية الرسمية وغير الرسمية) أو على أقل تقدير أتاحت له هذه المنصات فرصة أكبر لسماع شكواه، والإنصات لبثه وحزنه، وبادلته الشعور ذاته، كما أنها أسهمت في توسيع مدارك التفكير لديه، واقترحت له سيناريوهات العمل التي ينتهجها في قادم الوقت، أو منحته فضيلة الانتظار لما تسفر عنه أحداث الواقع والظروف المتسارعة ذات العلاقة بالقضية موضع النقاش والحوار، وقدمت له من المقترحات العملية ما يمكن أن يتخذ في ضوئها قراره، ومن جهة أخرى فإن اتجاه الشباب لطرح هذه القضايا عبر المنصات التواصلية رغم ما بها من محاذير وإشكاليات ترتبط بالابتزاز والهكر والحسابات الوهمية، بما يعكس هوة التباين بين ما تقدمه هذه المراكز، وكفاءة من تقدمه وبين ما يطرحه واقع الشباب والمجتمع، في إشارة يمكن وصفها بحالة الانسحابية التي تمارسها المراكز في ظل وعي الشباب والمجتمع وإدراكه لأساليب العمل بها.
ومن جهة أخرى فإن حالة عدم الإقناع التي تمارسها مراكز الاستشارات الأسرية والنفسية لم تشبع فضول المجتمع أو تحقق لها مساحة الأمان التي يرتجيها في ظل غلبة طابع المادة والمصلحة على عمل هذه المراكز، لتمارس دورا تسويقيا أكثر من دورها الخدمي والاجتماعي وتقديم الاستشارات الأسرية والنفسية بمستوى تعلوها المسؤولية وتحكمه المصداقية، لتشوه الصورة الإيجابية المفترضة بحالة سوداوية اختزلت الواقع في استشارات محسومة التكاليف تبدأ ببرنامج مطول وجلسات طويلة ترتفع بزيادتها مصاريف العمل، وتحسب قيمة كل جلسة أو استشارة فيها بعدد من يقدم فيها من نكهات أخرى، دون وعد بتحقق الأمر أو انتهاء الحالة، الأمر الذي أفقدها بريقها وأضاع حضورها، على أن ممارسات بعض القائمين على هذه المراكز، وحالة الإفصاح المباشرة أحيانا وغير المباشرة في أحايين أخرى عن الحالات التي تصل إلى هذه المراكز والاستشارات التي تقدمها، ما يتبعها من وصف لهذه الحالة عبر حسابات هذه المراكز أو الحسابات الشخصية للقائمين عليها أو المتعاملين معها والمقدمين للاستشارات الأسرية والنفسية في تدخل مريب في الخصوصيات وكشف للمستور، كل ذلك وغيره أثار حفيظة المجتمع والشباب من الاتجاه إلى هذه المراكز، وأعاد الأنظار في تأثيرها، والممارسات التي بدت تصدر منها.
من هنا يبدو أن محاذير المنصات الاجتماعية التي أشرنا إلى بعضها لم تعد ذات أهمية اليوم لدى مستخدمي هذه المنصات بعد وعيهم بالحيل والأساليب المستخدمة من ضعاف النفوس، والبدائل التي أتاحتها لمستخدميها في الحظر أو الإبلاغ أو غيرها، وبات طرح هذه التساؤلات والقضايا للنقاش الهادف والجاد عبر هذه المنصات أقل تكلفة وأقل في مستوى الخطورة، وأسرع في الحصول على إجابات مقنعة، أو تكاد تلتصق بالواقع وقراءة للعديد من التجارب والمواقف الشخصية، وفرصة أكبر في صناعة البدائل وإنتاج الحلول تفوق ما تقدمه المراكز المتخصصة من استشارات وعلاجات ونصائح أو جلسات للتعافي، خصوصا في ظل ما أثير حول عملها من تكهنات واستفسارات واسعة من قِبل العديد من المترددين عليها أو المجربين لها، والطبيعة الرقابية التي تمارسها حولها، أو المرجعية الوطنية المسؤولة عن تحديد رسوم العلاج، بالإضافة إلى طبيعة العلاج والتخصصية فيه، والكفاءة الأدائية والعملياتية التي يمتلكها القائمون على هذه المراكز من الفنيين والمتخصصين في جلسات العلاج وتقديم الاستشارات، وبالتالي إعادة استشعار المجتمع لأهميتها وقيمتها في تقديم استشاراتها الأسرية والنفسية وغيرها، بما يعنيه ذلك من الحاجة إلى إعادة دراسة مسار هذه المراكز، وأجندة عملها، والضوابط التي تستند إليها، والكفاءات التي تعمل بها، والأدوات التي تستخدمها، والتشريعات والقوانين المنظمة لها في أدق تفاصيلها وجوانبها الفنية الأخرى بما يضمن قدرتها على صناعة الفارق وكسب ثقة المجتمع فيها، وجودة المحتوى الذي تقدمه، والعلاج الذي تتبناه، وطرق النصح والتوجيه والتوعية والتصحيح التي تستخدمها، والأفكار التي ترسخها في ذهن الحالة، ونوعية العلاج الذي يقدم فيها (الأعشاب الطبية أو الحجامة أو غيرها) وفق منظومة عمل متكاملة تقرأ هذه المراكز واختصاصاتها ومهامها وطبيعة عملها، وتستقرئ رأي المجتمع فيما تقدمه من استشارات وقائية واثرائية وعلاجية، الأمر الذي يفترض أن يؤسس لمرحلة جديدة من تقييم عمل مراكز الاستشارات الأسرية والنفسية في تقديم خدمة عالية الجودة، ملتزمة بكل المعايير والاشتراطات، بالشكل الذي يقلل من اعتماد الشباب والمجتمع على المنصات الاجتماعية التواصلية لما تحمله من محاذير ومخاطر أخرى، وحاجة بعض هذه القضايا أو الحالات الأسرية والنفسية إلى ذوي الاختصاص وأصحاب الخبرة والكفاءة المهنية من خلال متابعة تطور الحالة ومستوى التحسن والاستجابة للعلاج أو غيره وفق جلسات محددة وآليات معتمدة، الأمر الذي قد لا تستطيع أن تقدمه المنصات الاجتماعية بصورة سليمة.
أخيرا، تبقى استفادة هذه المراكز من الإخفاق الحاصل في عملها، أو انتزاع الثقة وتحويلها إلى فرصة نجاح قادمة مرهونة بقدرتها على ترتيب أوضاعها وتصحيح مساراتها، وإنتاج دورها الذي انتزعته منها المنصات الاجتماعية، بحيث تقرأ حركة التطوير والتحديث والوعي المجتمعي في التعامل مع قضاياه الأسرية والنفسية والشخصية وغيرها بمزيد من المهنية والحس المسؤول، ومصداقية العمل، واحترام إنسانية الإنسان وقناعاته وقراراته الذاتية، وإعادة مراجعة الرسوم المالية المقررة، بما يعيد ثقة المجتمع إليها واستفادته منها، وتقديم مسار استشاري ضامن للوصول إلى الهدف، بعيدا عن كل التشوهات التي باتت تدخل هذه المراكز والانحرافات التي ترصد حول أدائها.