سامي الهاشلي:
نتذكر دائمًا الغاية الكبرى من خلقنا ألا وهي (عبادة الله سبحانه وتعالى)، قال الله تبارك وتعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات ـ 56)، تنقسم العبادة إلى قسمين: قسم مخصوص محدد بالفرائض الخمس (الشهادتين، والصلاة والزكاة والصوم والحج)، وقسم عام يشمل كل تعاملات العبد في حياته مثل:(البيع والزواج والحكم والتعليم والصحة والأمن، والعمل)، وفي كل قسم وما به من تفصيلات ترتسم التزامات أخلاقية تؤدى بها تلك العبادة، لترتسم بالصفة الإجلالية للمعبود، لتكون على قدرية الأمانة والإبداع، وإن كانت في العبادة العامة، لأنها من مراد الخالق والتخلق في تأديتها هو التخلق لله عز وجل، ويمكن تقسيم الالتزامات الأخلاقية على النحو الآتي:
أولًا ـ الالتزام الأخلاقي لله عز وجل: يكون الالتزام الأخلاقي بالله بتعظيم الإيمان به، وعدم الإشراك به، والخضوع لجلاله، والاعتراف بكمال صفاته وأفعاله، والاستحاء من الوقوع فيما لا يرضي أو التأخر عن تأدية أوامره، وتنزيهه التنزيه المطلق عن كل ما يقلل من ألوهيتهوعظمته وكبريائه وهيبته، والتصديق بما يخبرنا به والثقة بما يوجهنا إليه، والتسليم بما يأمر ويقضي، وعبادته بما يريد بتذلل وخشوع وإتقان، والعمل على ديمومة حبه وكسب رضاهوالتخلق بصفاته الممكنة كالكرم والرحمة، والدعاء بأسمائه الحسنى وعدم الحلف بغيره وكذا الاستعانة، وإحقاق الحق لله، وشكره على نعمائه، والدفاع عن مقامه، والتعريف به،وعدم تتبع ما يشين بالإيمان من أوهام وظنون سيئة، وتقليد المعتقدات الباطلة والضلالات الشائعة، والترفع من هذا الالتزام كل ما تفرع عنه، فالالتزام الأخلاقي بالإيمان باليوم الآخر هو المحاسبة للنفس قبل الحسابوتطهير الميزان استعدادا للمثوبة، والتزام التقوى لأجل تحقق مراد الله لدخول الجنة. والالتزام الأخلاقي تجاه الملائكة هو الاستحاء منهم وعدم إيذاءهم بفعل المعاصي وعدم إخراج العورة في معيتهم والتحدث بالكلام اللائق في حضرتهم، والالتزام الأخلاقي للكتب الالتزام بأخلاقياتها وبتقديسها وتحقيق هدايتها في النفس وتلاوتها بحقها ومستحقها، والالتزام بتنزيه الأنبياء هو التّأسّي والاهتداء بهم ورفعهم لمقام القدوة العليا، وفي القدر الرضى بما قضي منه ثقة بحكة الله تبارك وتعالى.
ثانيًا ـ الالتزام الأخلاقي للعبادة الخاصة: العبادة تستلزم خلق الخضوع في عمومها وعدم الاستنكاف والتكبر، ثم يتبعها أخلاقيات تستوجب التوقير لها؛ ففي الصلاة الخشوع والطمأنينة والقراءة الحسنة فيها، وزهد النفس عن الفحشاء والمنكر بعد تأديتها، وإقامتها في جماعة أيضًا التزام أخلاقي تعظيمي، وفي الزكاة النفقة مما نحب وبحفظ ماء وجه المصروفة إليه وإعزازه بعيدا عن المنة والأذية، وفي الصوم كف اللسان، عن الزور والكذب والغيبة والفحشاء، وفي الحج السكينة والسلامة وتجنب الرفث والفسوق والجدال، أثناءه وبعده، وتعظيم شعائر الله فيه، ثم الالتزام الأخلاقي الشامل بعد الحج والعهد عليه حتى الممات وفاءا بتلك الحجة.
ثالثًا ـ الالتزام الأخلاقي للعبادة العامة: هي علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقته ببيئته وبنفسه، إذا ما قصد بمزاولتها الإخلاص لله، والالتزام بحدود الشريعة فيها، فبذلك تكون عبادة لله خالصة، ويكون الالتزام الأخلاقي فيها بحسبها:
(أ) علاقة الإنسان بنفسه: الإنسان مكون من (جسد ونفس وعقل وقلب) والالتزام الخلقي للجسد هو بناءه بالطيب من الطعام والشراب، وديمومة طهارته، وتكريم شهوته الجنسية في الحلال، وتجنب استخدمه في الحرام، وكذا السمع والبصر والفؤاد، والحفاظ على جماله وأناقته ورائحته الجميلة وملبسه النضر، وأما العقل باحترامه وتغذيته بالعلم والتفقه والقراءة، وتحري الحقيقة بإنصاف وتجرد وحياد، واكتشاف المفيد من المعارف والعلوم والتفكر والتدبر، وتجنيبه كل ما ينقصه كالمسكرات والأفكار الهدامة وتوافهها، والاشتغال بالفكر المؤلّف وتناسي الفكر المثير للأحقاد والضغائن، واتباع العقل توقيرا له بدلا عن اتباع الهوى والشهوات. وأما الالتزام الخلقي للقلب يكون بحب الخير والحق وأصحابه وكراهية الباطل وأتباعه والظلم والفساد والشر، وتنزيهه من الأحقاد والضغائن، وتلبيسه جلباب التسامح والصفح والشجاعة. ويلتزم في النفس بخلق الصبرعلى عمل الواجبات والصبر على المصائب والعفة، وعلو العمة وجود النفس، والأناة في الأمور، والنظام في العمل والإتقان في المهنة والتحلي بالحكمة، وترفعها عن التشفّي والحسد والغل.
(ب) علاقة الزوج بزوجه: بالالتزام بالرحمة والمودة والصحبة بالمعروف والخير، والإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، وتوفير المأكل والمشرب والسكنى وحسن الظن والطمأنينة، مع تجنب الأخلاق المضادة لذلك كالقسوة وسوء المعاشرة، والإهانة وفشي الأسرار الزوجية، وتربية الأولاد على الولاء والانتماء وتعليمهم الخلق والإيمان والعلم والتربية الصالحة.
(ج) علاقة الإنسان بأرحامه وجيرانه: بالبر والإحسان والتسامح وغض البصر عن نساء الجار والناس، والكرم وعدم الإيذاء، وأداء الواجب والحقوق، ومواساتهم والفرح لفرحهم والتهادي، والصلح والتعاون، وتوقير الكبير ورحمة الصغير والنصرة والمحبة، والحلم والتواضع والصدق والأمانة والصبر على الأذى، والعفو والصفح والعطاء ورحمة المساكين وعون الضعفاء ونصرة المظلوم ومنع الظالم، والقرض الحسن، والإرشاد، ولين الجانب ومضاعفة الوفاء لمن قدموا، وإكرام الضيف، وحسن العشرة وإكرام الجار وعيادة المريض، والقاعدة الكبرى في ذلك هي معاملة الآخرين بما يحب أن يعاملوه به، مع تجنب الأخلاق المضادة لذلك كالكذب ونكران الجميل والعدوان والظلم.
(د) العلاقة المالية: وأساسها خلق الحق والعدالة، وتكون في البيوع والشراء والميراث والهبة والوصية والرهن والنفقة وغيرها، بالسماحة وعدم الغبن وتجنب مسبب النزاعات كالغش والربى والتدليس والتبذير والشّح.
(ه) علاقة الحاكمية: بطاعة أولي الأمر من قبل الرعية، والعدالة من قبل الحاكم للرعية وتأمين العيش الكريم في الحاضر والمستقبل القريب والبعيد.
(و) العلاقة الأسرية: للرحم مكانة عند الله، فبالالتزام بالولاء والانتماءإليهم ووصلهم في السراء والضراء.
(ز) العلاقة بالمخلوقات: جعل الله المخلوقات مسخرات للإنسان، وعليه التزاما أخلاقيا لذلك التسخير بالعناية والرحمة والإعمار والتجميل والحماية، والرفق في المعاملة وتأدية حقوقها وعدم إيذائها، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ـ رضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أن رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ:(عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ) قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ:(لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلاَ سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا، فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).
(ح) العلاقة بالوطن والأمة: الالتزام بخلق الولاء والوفاء وجلب المصلحة له ودفع المضرة عنه والإعمار بما يواكب التقدم والتطور وإعزاز الأمن العسكري والاقتصادي والعلمي والتجاري والزراعي وغيرها، وتوقير المواطنين عموماوالوطنيين والمناضلين لأجله خصوصا.
(ط) العلاقة بالدين: علاقة أمانة على كاهل كل بالغ عاقل، على الطائع والفاسق، بداية من تعلم مبادئه وتفصيله وتطبيقها إلى تبليغه والذود عنه بالمال والنفس، وتنسحب الأمانة على إكرام علمائه ومدرسيه ومكتباته ومناهجه.
رابعًا ـ الالتزام الأخلاقي تجاه الأخلاق:
يكون بالالتزام بالصدق فيها جوهرا وحسن تطبيقها سلوكا، فالخلق الصادق نابع بما يؤمن به في القلب من الإيمان بالخُلُق، أنه صفة من صفات الله العظمى التي يجب أن يتصف بها المرء، ويتعاظم فيها كما تعاظم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وليس أدل على ذلك من قوله تعالى:(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَاوَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًاوَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان ـ 15)، فرغم أنّ ارتكاب الشرك في حق الله ظلم عظيم، أوصى الرحمن بالوفاء لذلك المشرك من قبل أولاده بالصحبة بالمعروف. وأما الخلق النابع من النفاق والرياء والمداراة والمجاملة كالعطاء بدافع الطمع لا الجود ولا الرحمة، لا يعد خلقا وإنما هي سلوكيات لما قصدت له.
* كاتب عماني