محمود عدلي الشريف:
إخوة الإسلام والإيمان.. اسمحوا لي أن أصحبكم هذه المرة لنزور صحابيًا جليلًا من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورضي الله عن صحابته الكرام أجمعين، فكما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو الأسوة الحسنة، فإن في صحابته الكرام أيضًاالقدوة الطيبة والشفاء من كل علة والكثرة لكل قلة، الصبر على كل بلية والاهتداء لكل غاية وعطية، فهم النجوم الزاهرة والكواكب المضيئة التي لا ينطفئ نورها ليلًا ولا نهارًا، ففي أعمالهم الصلاح وفي الاقتداء بهم النجاح وفي اتخاذهم قدوة الفوز والفلاح، ولذا نجد أننا كلما نزورصحابيًا منهم نجد أنه يعادل أمة وحده، ففي هداه كأنه نبي، وفي تقواه كأنه صفي، في علمه وفقهه مدرسة وفي جلده واجتهاداته لكل ذي تقصير مؤانسة، ومن يتابعهم يجد الاسترشاد والنصح.
أيها الأحبة الكرام: إن صحابة رسول الله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ مختارون له ليتشرفوا بصحبته، فلاشك أن هذا الاختيار كان لمواصفات فيهم تميزهم عمن سواهم، وما دعاني ـ إخواني الكرام ـ أن أختار هذا الصحابي الجليل لنزوره اليوم ما تميز به من حالة خاصة فريدة ومواقف نادرة جديدة، فإن في قصصه عظة وعبرة وفي مواقفه منفعة وثمرة، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمزح معه مزح الصديق الحميم ويضاحكه ضحك الحبيب الرحيم، وعلى العموم فالنبي القائد (صلى الله عليه وسلم) مهموم بأمر أمته، وبجيوشه، وقواده، وبأهل بيته، وبالوحي تارة وبالعبادة أخرى، وهناك هموم أخرى، إنها أعمال عظيمة تجعل أي رجل عاجزًا عن الوفاء بمتطلبات الحياة وبث الروح فيها، ولكنه (عليه الصلاة والسلام) أعطى كل ذي حق حقه فلم يقصر في حق على حساب آخر وفي جانب دون غيره، فهو (صلى اللهعليه وسلم ) مع كثرة أعبائه وأعماله جعل للصغار في قلبه مكانًا، فقد كان (عليه الصلاة والسلام) يداعب الصغار، ويمازحهم ويتقرب إلى قلوبهم ويدخل السرور على نفوسهم كما يمازح الكبار أحيانًا،إنه حسن خلق من كريم سجاياه وشريف خصاله (عليه الصلاة والسلام)، ومع تبسط الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع أهله وقومه فإن لضحكه حدًا فلا تراه إلا مبتسمًا كما قالت عائشة ـ رضي الله عنها:(ما رأيت رسول الله مستجمعًا قط ضاحكًا حتى ترى منه لهواته، وإنما كان يبتسم)،ومع هذه البشاشة وطيب المعشر إلا أنه (صلى الله عليه وسلم) يتمعر وجهه إذا انتهكت محارم الله) (كتاب يوم في بيت الرسول، ص: 36)، فيا ترى!؟ من هذا الرجل الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)قد خصّه بمزحه خاصة لم يمزح مثلها مع غيره؟ إنه الصحابي الجليل (زاهِر بن حرَام)ـ بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالرَّاء ـ الْأَشْجَعِيّ، الذي شهد بَدْرًا وَكَانَ حجازياً يسكن الْبَادِيَة)(الوافي بالوفيات 14/ 112)،وهو من بني أشجع و(بنو أشجع ـ حي من غلفان من العدنانية، غلب عليهم اسم أبيهم فقيل لهم أشجع، وهم بنو أشجع بن ريث بن غلفان، وغلفان يأتي نسبه عند ذكره في حرفالغين المعجمة. قال أبو عبيدة: وكان له من الولد بكر وسليم وعمرو، ومنهم جعدة بن هبيرة الأشجعي الصحابي. قال في العبر: وكانوا هم عرب المدينة النبوية، وكان سيدهم معقل بن سنان الصحابي. قال: وليس الآن أحد منهم بنجد إلا بقايا حول المدينة، ثم قال: وبالمغرب الأقصى منهم حي عظيم الآن يظعنون مع عرب المعقل بجهات سلجماسة ولهم عدد، وذكر منهم زاهر بن حرام الأشجعي الصحابي شهد بدراً). (نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب،ص: 40)، وفي كتاب (المستخرج من كتب الناس للتذكرة والمستطرف من أحوال الرجال للمعرفة 2/ 145):(عِدَادُهُ في بَادِيةِ الحِجَازِ)، وفي كتاب (جمع الوسائل في شرح الشمائل 2/ 29):(كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا، هُوَ ابْنُ حَرَامٍ ضِدُّ حَلَالٍ). (قال أبو عمر: شهد بدرا، ولم يوافق على ذلك، وقيل تصحّف عليه لأنه وصف بكونه بدويّا بالواو) (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 4/ 101).
وعلى الرغم من أن هذا الصحابي الجليل لم يذكر عنه شيئًا كثيرًا، والمشهور عنه الحديث التالي ذكره، إلا إنه ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان له تمييزًا خاصًّا في ثلاثة أشياء، الأول: صفة هيئته الخاصة من حيث السكن فقد كان من سكان البادية، ومن حيث شكله الخاص الذي وهبه الله تعالى إياه فقد كان جميل المنظر أظهر الله تعالى جمالا متخفيا تحت دمامة ظاهرية ليكن ـ رصي الله عنه ـ متميزًا بهذه الصفة الجميلة النادرة التي اختصه الله تعالى بها، علما بأن صحابة رسول الله كانوا لا يهتمون الشكل فهو من خلق الله تعالى عملًا بما جاء في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) (صحيح مسلم 4/ 1987)، ثم بالرغم من دمامته ـ رضي الله تعالى عنه ـ إلا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يحبه حبا شديدا واصطفاه صديقًا عزيزاكما سيأتي في الحديث، الشيء الثاني: أنه ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان مجيئه إلى رسول الله وذهابه من بين يديه بهدية أو بطرفة، وفي كلا الأمرين كان يسعد رسول الله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ فكانت تسعده الهدية وكانت تضحكه الطرفة ، وهذا ما تميز به الصحابي الجليل زاهر بن حرام الأشجعي رضي الله عنه في ذهابه وإيابه، والشيء الثالث: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يداعبه مداعبه تعطينا القدوة الحسنة أن نكون كذلك في تعاملنا مع الناس وفي حلنا وترحالنا فقد كان رسول يمزح ويضحك ولا يشغله ذلك عما ابتعثه الله له، وقد كان هذا الصحابي في السوق مشغولا بسلعة له يبيعها فاحتضنه رسول الله من خلفه، وهو يقول: أرسلني من أنت ؟ فلما علم أنه رسول الله التصق به أكثر، انظروا إلى الحب الخالص والمعاملة الثرية التي ينتج عنها الكثير والكثير من العاطفة الجياشة والمودة المتجددة.
وتخيلوا معي ـ أيها الأحبة ـ ماذا قال الرسول وقتها؟ قال: من يشتري هذا العبد؟ فقال زاهر: إذن تجدني كاسدا يا رسول الله فقال له الحبيب: بل أنت عند الله غال، ويكفيه أن رسول الله قال عنه "إِنَّ زَاهِرًا بَادِينَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ"، أَيْ: سَاكِنُ بَادِيَتِنَا أَوْ صَاحِبُهَا أَوْ أَهْلُهَا، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ: بَادِينَا مِنْ غَيْرِ تَاءٍ، وَالْبَادِي الْمُقِيمُ بِالْبَادِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي)(الحج ـ 25)، و(َهُوَ فِي الْمَعْنَى أَظْهَرُ مِنَ الْأَوَّلِ (وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ): مِنَ الْحُضُورِ، وَهُوَ الْإِقَامَةُ فِي الْمُدُنِ وَالْقُرَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّا نَسْتَفِيدُ مِنْهُ مَا يَسْتَفِيدُ الرَّجُلُ مِنْ بَادِيَتِهِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتَاتِ، وَنَحْنُ نُعِدُّ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَلَدِ) (رقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 3064) .. وستأتيكم القصة بكاملها عما قريب، وإلى ذلك الحين أترككم في عناية الله ورعايته.. يتبع.

[email protected]*