د. أحمد مصطفى أحمد:
هناك مطالب الآن لبريطانيا بتأجيل قمة المناخ العالمية، كوب26، المقرر أن تستضيفها في شهر نوفمبر القادم. ذلك على الرغم من زيادة القلق من التغيرات المناخية وعدم كفاية الأهداف الدولية للحدِّ من الانبعاثات الكربونية والغازات المُسبِّبة للاحتباس الحراري. فقد شهدت الأشهر الأخيرة الكثير من الظواهر الطبيعية من أعاصير وذوبان ثلوج قطبية وفيضانات وعواصف تنذر بأن التغير المناخي للأرض وصل بالفعل إلى نقطة حرجة. تتباين الدوافع وراء المطالبات لبريطانيا بتأجيل قمة المناخ، من معارضة سياسية لحكومة المحافظين بقيادة رئيس الوزراء بوريس جونسون والتي تتهمها بأنها لم تفِ بالتزاماتها في مكافحة التغير المناخي. ومن ناحية أخرى هناك من يرى أن الظروف التي يمر بها الاقتصاد العالمي ستجعل القمة عاجزة عن اتخاذ أي إجراءات حاسمة للحدِّ من الانبعاثات الكربونية بينما التعافي الاقتصادي من أزمة وباء كورونا في وضع هش.
وبغضِّ النظر عن مشاكل بريطانيا الداخلية، فالحقيقة أن الأهداف التي وضعتها الأمم المتحدة واتفق عليها في قمة المناخ العالمية السابقة، كوب25، في باريس عام 2015 تحتاج إلى تعديل. فلم يعد مناخ الأرض يحتمل الانتظار حتى عام 2030 أو عام 2050. بل ربما يكون على العالم التحرك بشكل أسرع في غضون عامين أو ثلاثة. وهذا ما يخشى ألا تتفق عليه قمة نوفمبر القادم، وربما يحتاج بالفعل إلى مشاورات وتعهدات مسبقة لضمان نجاح القمة. صحيح أن أغلب دول العالم أعلنت التزامها باستهداف خفض الانبعاثات الكربونية بما يصل إلى النصف في غضون عشر سنوات لتصل إلى صفر في غضون عشرين عاما. المشكلة أن تلك الأهداف، رغم أن أنصار مكافحة التلوث البيئي والتغير المناخي يرونها غير كافية، تبدو غير قابلة للتحقيق تماما.
تشهد أوروبا وبريطانيا حاليا أزمة خانقة في الطاقة ناجمة عن ارتفاع في أسعار الغاز الطبيعي بأكثر من ثلاثة أضعاف في فترة وجيزة نتيجة نقص الإمدادات وزيادة الطلب الآسيوي على الغاز. وانعكس ذلك في معاناة شبكات الطاقة الكهربائية من نقص توريد الكهرباء بالجملة، ما اضطر بعض الدول مثل ألمانيا وبريطانيا لتشغيل محطات توليد الكهرباء بالفحم التي كانت على وشك إخراجها من الخدمة ضمن تعهداتها بأهداف تقليل الانبعاثات الكربونية. ومعروف أن حرق الفحم ينتج ثاني أوكسيد كربون في الجو أكثر بكثير من مشتقات النفط ومصادر الطاقة الأخرى. وضاعف من الأزمة أن حرارة الجو في أوروبا أدت إلى سكون الرياح فتوقفت أغلب توربينات توليد الطاقة من الرياح في أوروبا وبريطانيا. مع العلم أن تعطل مصادر الطاقة المستدامة ناجم عن التغيرات المناخية التي يستهدف الجميع مكافحتها بتقليل انبعاثات الكربون. ألا تبدو تلك دائرة مفرغة؟ نعاني من نتائج تغيرات مناخية ناجمة عن انبعاثات الكربون، فنلجأ إلى زيادة انبعاثات الكربون (ولو مضطرين) للحدِّ من تلك المعاناة فنلوث أكثر فتزيد التأثيرات ثم المعاناة.. وهكذا.
لكن من المهم أيضا إعادة التفكير في تلك الأهداف والتعهدات قبل طرح المزيد منها ثم ينقضها العالم مجددا. أولا يبدو هدف "صفر كربون" من النشاط البشري نوعا من الشطط. فمهما تطورت تكنولوجيا التقاط الكربون وحبسه ومهما تحول العالم عن استخدام مصادر طاقة مولدة للكربون ـ وهو ما يبدو شبه مستحيل ـ ومهما استثمر العالم في مصادر الطاقة النظيفة والمستدامة، فلا يمكن تصور أن يدور الاقتصاد دون انبعاثات كربونية. مثال بسيط برز هذا الأسبوع في بريطانيا: نتيجة ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء أغلقت شركة مصانعها فتعطلت صناعة التبريد للمواد الغذائية فاختفت من على أرفف المحلات. واضطرت الحكومة لاتخاذ قرار استثنائي بالسماح للصناعات الغذائية باستخدام تبريد عالي الانبعاثات الكربونية. فهل يمكن تصور أن يتوقف العالم عن استخدام أجهزة تكييف الهواء والتبريد؟ بالطبع لا. نعم، يمكن للتكنولوجيا أن تطور أجهزة تكييف وتبريد وتدفئة قليلة الانبعاثات الكربونية، لكن "منعدمة الانبعاثات" أمر لا يزال في طور الخيال، على الأقل حتى الآن.
ونذكر بأن كل تلك التطورات التكنولوجية تستند إلى زيادة استهلاك الكهرباء التي ما زالت يتم توليد القدر الأكبر منها في محطات تعمل بالفحم أو مشتقات النفط أو الغاز الطبيعي. ربما تكون محطات الكهرباء التي تعمل بالطاقة النووية حلا مثاليا، لكن يصعب تصور أن تفي تلك المحطات بالطلب العالمي على الكهرباء، حتى دون الحديث عن توقعات زيادة ذلك الطلب لتلبية التحول نحو ممارسات تكافح التغير المناخي. ناهيك عن أن خام اليورانيوم على الأرض قد لا يكفي وليس في النهاية مصدرا مستداما للطاقة. تبقى الشمس والرياح والمياه كمصادر مستدامة لتوليد الطاقة الكهربائية. لكن ما يمكن توليده من طاقة من تلك المصادر المستدامة قد لا يزيد عن ربع ما يحتاجه العالم من طاقة. وبالتالي سيظل العالم يولد ثلاثة أرباع استهلاكه من الطاقة من مصادر تنبعث منها غازات مسببة للاحتباس الحراري.
ربما على العالم مراجعة مسألة مستهدف صفر كربون، رغم أن ذلك طور قطاعا اقتصاديا مهما هو تجارة كوبونات الكربون وتداولها في البورصة. وهناك بالفعل بدائل منطقية، طبيعية ومستدامة، مثل التوسع في زراعة النباتات الخضراء والتوقف عن تدمير الغابات الطبيعية الذي يتم على نطاق واسع، وحاليا كما في البرازيل. وبالتأكيد هناك بدائل أخرى لن يعجز العلم عن ابتكارها.