جودة مرسي:
كنت أنوي في مقالي هذا الأسبوع الحديث عن بدء العام الدراسي والاستعدادات الكبرى التي تقدمها وزارة التربية والتعليم من أجل الحفاظ على كل أفراد العملية التعليمية من معلمين وإداريين وطلبة إلى آخره من مفردات العملية التعليمية، حتى نخرج بسلام من الشبح المخيف الذي تسلل داخل حياتنا وغيرها وغيرنا معها وهو "كوفيدا 19". إلا أنه أثناء تتبعي لأخبار برامج التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها، وجدت أن الأخبار المسيطرة على هذه البرامج هو حالات الانتحار التي انتشرت رغم تحريمها من كل الأديان السماوية. ومن تلك الأنباء خبر انتحار فتاة في أحد المولات الشهيرة بالقاهرة لسوء معاملة أهلها لها، والخبر الثاني انتحار رجل تحت عجلات القطار لمروره بضائقة مالية لم يستطع خلالها سد احتياجاته فكان الحل الأسرع والأقرب له هو إنهاء حياته. ليذكرني هذا بصراع الأصل والصورة، والأصل هو الحياة واحتياجاتها، والصورة هي الحلم الذي عجز الإنسان عن تحقيقه؛ أي أنه خصام الأمل والواقع، الصدام بين رغبات الذات وقسوة الظرف الموضوعي. وبطبيعة الحال، فإن المنتحر لو فكر بعض الوقت في مصير من سيتركهم وراءه أو في العقاب الإلهي الذي ينتظره نظير فعلته لما أقدم على فعلته؛ لأن الحياة ليست ملكا له، فيضطر للهروب كما يعتقد كل منتحر في أنه لا يقصد الموت أبدا، بل يفعل ذلك لتعلقه الشديد بالحياة، لكنه يطلب حياة ليست هي الحياة التي يعيشها، إنها لحظة موتورة من عمر الإنسانية.
ولأن الانتحار ظاهرة عالمية وتكثر في بلاد التقدم والعلم والاقتصاد والمستوى المعيشي الملائم، كان لا بُدَّ أن نعرف رأي العلماء في هذه الظاهرة، فيقول علماء علم النفس ويحذرون من أن العالم يستهين بالأعداد الحقيقية للذين يقدمون على وضع نهاية لحياتهم، وإن الانتحار أصبح أكثر أسباب الوفاة غير الطبيعية بين الإناث في حين أنه ثالث أسباب الوفاة بين الرجال، وذلك بعد حوادث المواصلات والجرائم. وبحسب التقديرات الرسمية لمنظمة الصحة العالمية، فإن نحو مليون شخص ينهون حياتهم بأيديهم سنويا. وبينما تراجعت أعداد المنتحرين في ألمانيا بشكل واضح منذ سبعينيات القرن الماضي، ارتفع معدل هذه الجرائم عالميا.
ورصد الباحثون تحت إشراف ألكسندرا بيتمان من جامعة لندن ارتفاع نسبة مرتكبي الانتحار بشكل واضح في بعض الدول مثل البرازيل وسنغافورة وليتوانيا وأيرلندا، خصوصا بين الشباب.
وبحسب دراسة أخرى للأستاذ كيث هوتون وكات ساوندرس، من مركز أبحاث الانتحار بجامعة أوكسفورد البريطانية فإن التقديرات الرسمية عن أعداد المنتحرين أقل بكثير من العدد الحقيقي، وأن هناك تكتما على هذه الجرائم في المناطق التي تسود فيها الأديان السماوية التي تجرم الانتحار؛ وذلك لحماية أهالي المنتحرين، بالإضافة إلى أن 10% من الشباب تعمدوا ذات مرة جرح أنفسهم دون أن تعرف الأسباب وراء ذلك على وجه التحديد.
وفي ضوء صعوبة مواجهة جرائم الانتحار، اقترح البروفيسور بول يب من جامعة هونج كونج العمل للحيلولة دون وصول الراغبين في الانتحار إلى سبله مثل إقامة حواجز عند الجسور "فمعظم الناس يعتقدون أن من يريد الانتحار يجد الوسيلة لذلك.. ولكن البحث العلمي أظهر أن الحدَّ من سبل الوصول للانتحار مثل السم يمكن أن يخفض نسبته بشكل كبير". إن الانتحار جريمة ضد الإنسانية بشكل عام ولا توجد أي مبررات دينية أو اجتماعية أو عقلية تسمح بإنهاء حياة إنسان لنفسه لمجرد التعرض لحادث نفسي أو مادي أو مجتمعي؛ لأن الحياة رسالة خلق من أجلها الإنسان وهو موكل بتنفيذها كما أمرت كل الشرائع السماوية.
إن ظاهرة الانتحار تدفعنا للبحث عن إجابة تلخص لسؤال عن: لماذا يهجر الإنسان المعنى العميق للحياة؟ ولماذا يضيق الأفق للحلول باحتياجات الناس والأصل أن يفتحوا أمامهم دروبا جديدة للحياة؟ وأرجوك لا تنتحر إن كنت تنوي الانتحار.