د. عامر بن سلطان الحجري:
لقد بدأ اهتمام السلطنة بالتعليم العالي الخاص في بداية تسعينيات القرن المنصرم؛ أي منذ أكثر من ثلاثين عاما، متزامنا مع إنشاء وزارة للتعليم العالي ومع انطلاق رؤية عمان 2020. وقد تجسد هذا الاهتمام بتقديم كافة أنواع الدعم، خصوصا الدعم المالي المباشر وغير المباشر. ومن الصعب حصر وتقييم كافة أنواع الدعم والمصروفات المالية التي تم إنفاقها وصرفها على مؤسسات التعليم العالي من الخزينة العامة للدولة في هذا المقال القصير. فهذا الموضوع يحتاج إلى بحث مفصل ومقالات عديدة. وكما هو واضح من العنوان، يهدف هذا المقال القصير إلى تقديم رأي متواضع عن واقع التعليم العالي الخاص في السلطنة بعد كل هذا الاهتمام والدعم الحكومي خلال أكثر من ثلاثة عقود، ثم تسليط الضوء على أهم تحديات إصلاحه وتطويره. وسوف أعتمد فيما أطرحه من استنتاجات وحقائق على خبرتي العملية ومعايناتي ومشاهداتي خلال ربع قرن من العمل في قطاع التعليم العالي. فقد كنت موظفا في وزارة التعليم العالي منذ عام 1995 إلى عام 2004، ثم محاضرا وإداريا في عدد من الكليات والجامعات الحكومية والخاصة إلى وقت كتابة هذا المقال.
وبعجالة سريعة، فإنه يمكن النظر إلى واقع التعليم العالي الخاص في السلطنة من زاويتي الكم والنوع. ففي جانب الكم، فإن الأرقام والمؤشرات التي تبين التطور في أعداد الجامعات والكليات الخاصة في السلطنة خلال العقود الثلاثة الماضية، وأعداد البرامج التي تطرحها، والطلبة الملتحقين بها والمتخرجين منها متاحة للجميع وتشير بكل وضوح وجلاء إلى القفزات الكبيرة التي حققها التعليم العالي الخاص. فالأرقام البسيطة التي بدأنا بها في منتصف التسعينيات ارتفعت بشكل كبير وسريع. فحسب البيانات المنشورة في موقع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، أصبح لدينا الآن ثمان وعشرون (28) مؤسسة تعليم عالٍ خاصة، وهي تسع (9) جامعات خاصة وتسع عشرة (19) كلية خاصة، وبلغ عدد البرامج المطروحة ثلاثمئة وخمسين (350) برنامجا أكاديميا. وحسب المصدر نفسه (التقرير السنوي لإحصاءات التعليم العالي بالسلطنة للعام الأكاديمي 2019/2020م) فقد بلغ عدد الطلبة الدارسين في مؤسسات التعليم العالي الخاصة في السلطنة في العام الأكاديمي 2019 – 2020 حوالي 55812 طالبا وطالبة، وعدد الخريجين 12180 خريجا في نفس العام الأكاديمي. وبالتالي بإمكاننا القول بأننا حققنا تطورا كميا ملحوظا لا ينكره أحد.
إلا أن التطور الكمي وحده لا يكفي للحكم على مدى التقدم والنجاح الذي حققناه في هذا القطاع المهم، بل إن العنصر الأساس في التقييم هو نوعية الجامعات والكليات التي أسسناها، ونوعية البرامج التي تطرحها، وكفاءة ومهارات ومعارف الخريجين، أي جودة التعليم. فلو بدأنا بالجامعات والكليات فإننا لا نستطيع أن نجد أمثلة متميزة نستطيع أن نتباهى ونفاخر بها ونقارنها بالجامعات والكليات في الدول الأخرى المشابهة لنا من حيث عمر المؤسسات والتجربة التعليمية، كجمهورية سنغافورة وماليزيا وهونج كونج وتايوان وغيرها من الدول التي نشترك معها في المسيرة النهضوية. فجامعاتنا وكلياتنا الخاصة لا تزال تفتقر إلى الكثير من المقومات والمتطلبات لكي ترقى إلى مصاف الجامعات العالمية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، هي بحاجة إلى الكوادر العمانية المؤهلة التي تقود عملية النهوض والتغيير. نعم الجامعات والكليات الخاصة بحاجة إلى رؤساء وعمداء ومديرين وأساتذة وباحثين عمانيين في كافة التخصصات. كذلك هي بحاجة إلى تطوير البنى التحتية من مبانٍ ومختبرات ومراكز تعليم وأبحاث مجهزة بالتقنيات الحديثة تمكنها من تطوير وتحسين برامجها الأكاديمية والبحثية. كما أنها بحاجة إلى تطوير برامج البحث العلمي في كافة التخصصات، وربط أنشطتها وبرامجها الأكاديمية والبحثية بالاقتصاد والمؤسسات الاقتصادية والمجتمعات المحلية، وإيجاد روابط وعلاقات تعاون مع مؤسسات التعليم العالي الأخرى المحلية والإقليمية والعالمية. هذه بعض الأمثلة على جوانب القصور الذي تعاني منه الجامعات والكليات الخاصة في السلطنة، والذي أثر سلبا على نوعية البرامج المطروحة في هذه المؤسسات وعلى كفاءة ومهارات ومعارف الخريجين، أي انعكس سلبا على جودة التعليم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لم تصل جامعاتنا وكلياتنا الخاصة إلى المستوى المطلوب والمأمول في جودة برامجها وأنشطتها، سواء في مجال البرامج التعليمية (الأكاديمية) والبحث العلمي والنهوض بالاقتصاد والصناعة وخدمة المجتمع، وغيرها من المجالات، على الرغم من الدعم الحكومي بشتى أنواعه خلال أكثر من ثلاثين عاما؟ وبعبارة أخرى، ما التحديات التي حالت دون إصلاح وتطوير التعليم العالي الخاص في السلطنة؟ وكما ذكرت في بداية هذا المقال، فإنني سوف أعتمد في إجابتي على هذا السؤال المهم على تجربتي وما خبرته وعاينته خلال عملي في هذا القطاع لمدة ربع قرن من الزمن، أعتقد أنها فترة كافية لسبر أغواره والتعرف على مشاكله وتحدياته، والتي أوجزها في الفقرات التالية.
أولًا: الفلسفة التي أُسس عليها التعليم العالي الخاص في السلطنة في منتصف التسعينيات والتي تعتمد على النظرة المادية الربحية البحتة للتعليم العالي الخاص، لم تكن موفقة. حيث اعتمدت هذه الفلسفة على مبدأ أن التعليم سلعة (خدمة) تجارية، مثلها مثل بقية السلع السوقية، يتم إنتاجها وبيعها من قبل رجال الأعمال أو المستثمرين بهدف الاستثمار وتحقيق عائد مالي (ربح). وبالتالي لتحقيق هذا الهدف الاستثماري (التجاري) وتعظيم هامش الربح فإنه لا بد من تخفيض تكاليف الإنتاج، خصوصا مع وجود عدد كبير من المنافسين وانخفاض الطلب. على سبيل المثال لا الحصر، استئجار مبانٍ رخيصة، وتوظيف أساتذة بأجور متدنية، وتقليل عدد الأساتذة وإلزامهم بتدريس عدد كبير من المواد والساعات التدريسية، ومختبرات بسيطة ورخيصة التكاليف، وطرح برامج رخيصة التكاليف (أغلبها برامج نظرية). وللأسف فقد استمرت مثل هذه الممارسات لفترات طويلة وما زالت مستمرة. ومما يؤسف له كذلك، فإن هذه المؤسسات كانت تحظى بالدعم المالي الحكومي المباشر أو غير المباشر كالمنح الحكومية، والبعثات الطلابية، والعقارات والمباني.
ثانيًا: عدم وجود برامج وآليات فعالة للإشراف على هذه المؤسسات وتقييم أدائها من أجل حثها ومساعدتها أو إجبارها على تحسين وتطوير جودة برامجها وأنشطتها والخدمات التي تقدمها لطلابها والمجتمع. وسبب هذا يكمن في محدودية أو تلاشي دور المؤسسات الحكومية المختصة بالترخيص بإنشاء مؤسسات التعليم العالي الخاصة والإشراف عليها ومراقبة أدائها. حيث إن هذه المؤسسات ظلت لفترة طويلة ولا تزال تفتقر إلى الموارد المطلوبة التي تمكنها من أداء مهامها في هذا المجال، خصوصا الموارد البشرية المؤهلة. هذا بالإضافة إلى البطء في سن وتحديث القوانين والتشريعات للتحكم في جودة المؤسسات وبرامجها وأنشطتها، والتساهل أو التهاون في تطبيق هذه القوانين والتشريعات.
ثالثًا: عدم وجود نظم فعالة وشفافة لحوكمة المؤسسات واتخاذ القرارات في هذه لمؤسسات. فالكثير من القرارات المهمة في هذه الجامعات والكليات يتم اتخاذها بطرق غير شفافة وبدون إشراك جهات الاختصاص أو مراعاة للهياكل التنظيمية والقوانين واللواح المنظمة لاتخاذ القرارات. فعلى سبيل المثال، تقوم بعض مجالس إدارات الجامعات والكليات (المستثمرون) والمالكون أفرادا وأسرا، باتخاذ قرارات هي من اختصاص وصلاحيات الإدارات والوحدات الداخلية للمؤسسات. ومما لا شك فيه، أن مثل هذه الأخطاء والتجاوزات في اتخاذ القرارات، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، تؤثر سلبا على أداء المؤسسات وجودة برامجها وأنشطتها والخدمات التي تقدمها.
رابعًا: تغليب المصالح والأهداف والعلاقات الشخصية في التعامل بين بعض الموظفين في الجهات الحكومية المختصة والجامعات والكليات الخاصة، إلى درجة أن الجامعات والكليات الخاصة أصبحت تعتقد بأنها لن تستطيع تحقيق أهدافها إلا من خلال إيجاد نوع من العلاقات مع الموظفين في هذه الجهات. وقد يؤدي هذا إلى ظهور نوع من التضارب في المصالح.