د. رجب بن علي العويسي:
يمثِّل المكوِّن الثقافي للمجتمع العماني منظومة متكاملة من الأفكار والمبادئ والقناعات والعادات والتقاليد والثوابت والمتغيرات وأساليب العيش وأنماط التعايش، والمشتركات بين أبناء المجتمع، والفنون والتراث المادي وغير المادي وأشكال التعبير الثقافية والاجتماعية المختلفة التي يتعايش معها المجتمع ويتفاعل معها أبناؤه، لذلك تأتي أهمية استحضاره كمدخل لإنتاج التغيير وتوجيه بوصلة الأداء الكفؤ، وتصحيح الاختلالات في الممارسة الفردية والمؤسسية، وإعادة توجيه مساره بما ينعكس على توجُّهات العمل الوطني، وتقييم مؤشرات النجاح فيه، وإنتاج القوانين والتشريعات، أو إحداث تحوُّل في منظومة الأداء، إذ كلما التزم المكوِّن الثقافي بالمعيارية، واتسم بالمرونة والأصالة والاحترافية، والتأطير والعلمية والمنهجية ووضوح الأدوات وكفاءة البرامج وموثوقية الخطط، ومرجعيات العمل وحضور الجهات المعنية بالضبط والتحفيز والتسويق، عزَّز من إنتاج التغيير وإحداث التحوُّل وصناعة الفارق؛ وسهّل على قطاعات الدولة ومؤسساتها المختلفة تنفيذ مبادراتها وتوجيه خططها التطويرية وتحديث برامجها وتحسين أساليب عملها، وإعادة إنتاج القوانين وهيكلتها بطريقة تتناسب مع التحوُّلات الحاصلة في المجتمع، وتقف مع الواقع الاقتصادي الذي تعيشه الدولة، بل إن نمو هذه الثقافة المستجدة وتناغمها مع الواقع، سوف يضع المواطن أمام مسؤولية التكيف معها، فيتفهم طبيعة الظروف الاقتصادية التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق كل مطالبات المواطنين أو الإسراع في تنفيذها، ويمنح المساحة الكافية للحكومة في ترتيب أوضاعها ودراسة آليات عملها، وإعادة رسم ملامح ثقافة المجتمع بطريقة أكثر مهنية واتزانا ومصداقية، قائمة على التخطيط السليم، والتنفيذ الأمين، والمشاركة الفاعلة، والتزام مبادئ الضبطية والمحاسبية، واعتماد معايير الحوكمة باعتبارها الطريق لبناء مسار مؤسسي يصنع الفارق، وعندها تصبح نواتج هذه الثقافة حماية للمجتمع من أي ظواهر سلبية قادمة أو ممارسات قد تقف حجر عثرة أمام تقدمه وتطوره.
وبالتالي يمثِّل المكوِّن الثقافي الوطني إطارا عاما يحدد بوصلة الهدف لمختلف المنظومات المجتمعية، بحيث تتناغم خلاله الأبعاد الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والتعليمية، في سبيل إنتاج الوعي وبناء الذات وتصحيح السلوك وصناعة الفرص، فلا يمكن تطوير التعليم مثلا بمعزل عن ثقافة المجتمع والخصوصية المجتمعية، كما لا يمكن الوصول إلى اقتصاد ناجح بمعزل عن تطوير التعليم وتأصيل ثقافة اقتصادية في حياة الأجيال منذ نعومة أظفارهم، كما لا يمكن الترويج للقدرات والكفاءة الوطنية والتسويق لها بعيدا عن تطوير الإعلام، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن يكون للإعلام حضوره النوعي في ظل غياب التشريعات والقوانين والحريات الفكرية ونظم إدارة المحتوى الإعلامي واحترافيته وخروجه عن المألوف المتكرر، وفي ظل وعي مجتمعي أو تقدير اجتماعي للرسالة الإعلامية الوطنية، وبالتالي ما يفهم من ذلك أن عملية التطوير حلقة متكاملة تحتوي كل مفردات المجتمع، وما يتضمنه من منهجيات وأطر وأساليب وطرائق عيش أفراد المجتمع وعاداتهم وتقاليدهم ومنطلقاتهم الفكرية وموجهاتهم الحياتية وترتيب أولوياتهم المعيشية، ودوره في إحداث التغيير في قناعات المواطن وأفكاره ونظرته للواقع وتصحيح الأفكار المغلوطة أو الصورة القاتمة التي ما زال يقرأ بها واقعه في وظيفة أو مستوى معيشي معيَّن في ظل الظروف الاقتصادية وتداعياتها على حياة المواطن اليومية، بحيث يجد في هذه المنصات مساحة للتعبير عن هذا الواقع ورصده مستخدما كل أنواع الفنون الثقافية والأشكال التعبيرية التي تؤسس في حياة الناس فرص الحياة الجميلة وإشراقتها المزهرة وتوظيف الفرص، وعدم الركون إلى هواجس النفس السلبية، وأن يبادر ذوو المواهب والمهتمون والمؤسسات الإعلامية والدينية والتعليمية والثقافية وغيرها في توظيفها، مستخدمين التقنيات الحديثة في توجيه رسائل هادفة إلى المجتمع في التعاطي الإيجابي مع هذه الظروف والتفكير العميق والممارسة التأملية المنتجة التي تصنع في حياة الفرد خيارات واسعة تضمن توجيه هذا الرصيد الثقافي والفكري في إنتاج فرص حياتية متجددة للمواطن يجد فيها مساحة لتطوير قدراته وموارده وتوسيع شبكة أنشطته الاقتصادية ومبادراته الاجتماعية.
ولمَّا كانت عُمان على أعتاب مرحلة جديدة لبناء المستقبل، تضع رؤيتها (عُمان 2040) محركا رئيسيا لأدواتها وأطرها وخططها وبرامجها ومدخلات التطور القادمة في منظومة العمل الوطني، والتي حدد معالمها الخطاب السامي لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم في الثالث والعشرين من فبراير 2020، حيث بدأت مع إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل وإعلاء قِيَمه ومبادئه وتبنِّي أحدث أساليبه، وتبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة؛ لضمان المواءمة الكاملة والانسجام التام مع متطلبات الرؤية وأهدافها؛ فإن نقل هذه المرتكزات على أرض الواقع، وتجسيدها في حياة المواطن اليومية، والمجتمع الوظيفي وعمل مؤسسات الجهاز الإداري للدولة، وانعكاساتها الإيجابية على حياة المواطن المعيشية وسلوكه العام والتزامه المهني في أساليب العمل وآليات التعامل، بحاجة إلى ثقافة مجتمعية تستوعب التغيير المرتقب وتؤسس للفرص المتوقعة، وتقوي من رصيد المشتركات بين أبناء المجتمع في قدرته على التنفيذ العملي لها والتأطير المنهجي لبرامجها ومبادراتها، وهو الأمر الذي جاءت رؤية (عُمان 2040) في إطاره، ساعية من خلال محاورها وأولوياتها إلى تحقيقه في ظل بيئة اقتصادية واعدة، تتجه نحو الابتكار وريادة الأعمال والجودة، وتعزيز الكفاءة الإدارية، أو ما يتعلق بتعميق المسؤولية الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي، وتأصيل فقه التطوع، وتنشيط حركة الجمعيات التعاونية، أو ما يتعلق ببناء منظومة المتابعة والرقابة على الأداء الحكومي وبما يضمن تحقيق النزاهة والمحاسبية، أو ما يتعلق منها بالاستدامة المالية والتنويع الاقتصادي من خلال تعزيز الإدارة الكفؤة للموارد، والاستثمار في المخلصين، وتعزيز صناعة القدوات الوطنية التي تعكس تصرفاتها روح المواطنة ونهجها، بالإضافة إلى تبنِّي استراتيجيات وطنية مستدامة لا تنتهي بانتهاء جائحة كورونا (كوفيد19)، وعبر المحافظة على المكتسبات الوطنية في هذا المجال، في تقنين الإنفاق، والحدِّ من الهدر والاستنزاف للموارد، ورفع مستوى الادخار، والحدِّ من الممارسات السلبية الناتجة عن عدم المبالاة أو سوء الاستخدام للموارد، أو حتى القرارات المتعلقة بتعزيز الضبطية القانونية والإجراءات الوقائية والتدابير الاحترازية التي يجب على المجتمع أن يستوعبها ويفقه آلية التعاطي معها، أو أي توجُّهات وطنية في إعادة هيكلة الجوانب الاجتماعية، سواء ما يتعلق بالضمان الاجتماعي، أو الإسكان الاجتماعي، ونظم توزيع الأراضي، أو المساعدات السكنية، أو غيرها من المشروعات الاقتصادية، ومواقع تنفيذها، والأنشطة السياحية والاقتصادية والاستثمار في أراضي الانتفاع، أو في التعاطي مع الأنشطة الرياضية وإيجاد مناشط رياضية أخرى لها حضورها العالمي، كل ذلك وغيره بحاجة إلى قاعدة ثقافية مجتمعية تصنع لهذا المسار القوة، وتؤسس له حضوره في الواقع مع المحافظة على الثوابت والأصالة العمانية.
عليه، فإن القراءة المستمرة للمكوِّن الثقافي الوطني والثوابت والمتغيرات، ومراجعته وتقييمه وقراءة مؤشراته بصورة مستمرة، ومتابعة مساراته، ومعرفة أوجه القوة، والانحرافات والتغيرات الحاصلة فيه، أو استشراف حدس التوقعات بشأنه في ظل تسارع التغييرات، وتداخل المنظومات مع بعضها الآخر، وعدم الفصل بين المكوِّن الثقافي وتطور المجتمع ووعي أبنائه، ودور التقنية في عالم سريع التغير كل ذلك وغيره يفرض اليوم مسارات أخرى تصنعها الثقافة الوطنية، ويؤكد أهمية متابعة مستوى التحوُّل في المكوِّن الثقافي وقراءة تجلياته وتحدياته، وفهم معطياته، وتلمُّس أوجه التحولات والظواهر الداخلة فيه وتأثيرها، إذ من شأن ذلك أن يؤسس لمرحلة متقدمة من الوعي المجتمعي، والثقافة الشبابية الأصيلة، التي تتسم بديناميكيتها وعصرنتها وتجددها مع محافظتها على الهُوية واحتكامها للمنظور الفكري والثقافي العماني بما يتميز به من اعتدالية وتوازن واحترافية وعمق، وما يتسم به من روح التجديد وتنوع الأدوات، بالشكل الذي يضمن التوجيه السليم للمسار الثقافي الاجتماعي نحو تحقيق أولويات رؤية (عُمان 2040)، ولذلك كانت التوجيهات السامية لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق لمجلس الوزراء في الخامس عشر من يونيو 2021 بدراسة الظواهر السلبية ووضع الحلول المناسبة لها أحد المعطيات التي تبرز دور ثقافة المجتمع في تحقيق الحراك الوطني القادم في الاقتصاد والإدارة وبيئة الأعمال والتعليم (التقني والمهني)، وتصبح دراسة هذا المكوِّن بكل تفاصيله ومتغيراته وظروفه وجوانب القوة فيه والأفكار الجدية التي يطرحها من واقع ثقافة الشباب واهتماماته وأولوياته، والمفاهيم وأشكال التعبير المستجدة والمتداولة في المجتمع وعلاقتها كداعم استراتيجي للتطوير والتجديد، أو بما تمثله من عقبة في تحقيق الأهداف الوطنية والغايات التي تسعى الحكومة لتحقيقها، خيارا استراتيجيا وطنيا في أي توجُّه وطني قادم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياحية والاستثمارية وبناء المدن الصناعية وإنتاج القوانين والتشريعات.
أخيرا، يبقى المكوِّن الثقافي العام بكل تفاصيله ومحتوياته، ورموزه ومعالمه، والذاكرة الحضارية العمانية المتجددة بما تحويه من نموذج ثري في السياسة والاقتصاد والأدب والتراث والنسيج الاجتماعي وصناعة الإنسان والمحافظة على التوازن الاجتماعي والثقافي، ركيزة مهمة فـي التطوير الشامل والتحولات الاقتصادية والإدارية القادمة، وفق نموذج حضاري ينقل المجتمع بمختلف شرائحه وفئاته إلى مسار القوة والفهم في استيعاب ما يحصل من تحوُّلات في منظومة الأداء الوطني، فيعمل على تأطيرها في أبجديات حياته، ووضعها في سلم أولوياته، وإعادة هندستها بأسلوب راقٍ، وذوق عالٍ، كما يؤسس لخطاب وطني متوازن في الاقتصاد والتعليم والسياحة والاستثمار والإدارة، يحتوي المواطن، ويستوعب طموحاته، ويتفاعل مع قضاياه.