بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ، وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)

أيها القراء الكرام في هذا اليوم نكمل ما بدأناه مع سورة المرسلات وهي الحلقة الأخيرة من تفسير هذه السورة المباركة ومع الآيات من 41 ـ 50 لنحيا بها سوياً مع كتاب الله تعالى ، نسأله سبحانه أن يجعل القران الكريم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وذهاب همومنا وجلاء حزننا .

قوله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} أخبر بما يصير إليه المتقون غدا ، والمراد بالظلال ظلال الأشجار وظلال القصور مكان الظل في الشعب الثلاث. وفي سورة يس {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُون َ} {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي يتمنون. وقراءة العامة "ظلال". وقرأ الأعرج والزهري وطلحة "ظلل" جمع ظلة يعني في الجنة. {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي يقال لهم غدا هذا بدل ما يقال للمشركين {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} فـ {كُلُوا وَاشْرَبُوا} في موضع الحال من ضمير {الْمُتَّقِينَ} في الظرف الذي هو {فِي ظِلالٍ} أي هم مستقرون "في ظلال" مقولا لهم ذلك. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا.
قوله تعالى : {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً} هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين ، وهو وعيد وتهديد وهو حال من "المكذبين" أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم : {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً} {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} أي كافرون. وقيل : مكتسبون فعلا يضركم في الآخرة ، من الشرك والمعاصي.
قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} أي إذا قيل لهؤلاء المشركين : {ارْكَعُوا} أي صلوا {لا يَرْكَعُونَ} أي لا يصلون ؛ قال مجاهد. وقال مقاتل : نزلت في ثقيف ، امتنعوا من الصلاة فنزل ذلك فيهم.
قال مقاتل : قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : "أسلموا" وأمرهم بالصلاة فقالوا : لا ننحني فإنها مسبة علينا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود " . يذكر أن مالكا رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر ، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر ، فجلس ولم يركع ، فقال له صبي : يا شيخ قم فاركع. فقام فركع ولم يحاجه بما يراه مذهبا ، فقيل له في ذلك ، فقال : خشيت أن أكون من الذين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ}. وقال ابن عباس : إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. قتادة : هذا في الدنيا. ابن العربي : هذه الآية حجة على وجوب الركوع وإنزاله ركنا في الصلاة وقد انعقد الإجماع عليه ، وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب ، وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا ، فمن كان لله يسجد يمكن من السجود ، ومن كان يسجد رثاء لغيره صار ظهره طبقا واحدا. وقيل : أي إذا قيل لهم اخضعوا للحق لا يخضعون ، فهو عام في الصلاة وغيرها وإنما ذكر الصلاة ، لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد. وقيل : الأمر بالإيمان لأنها لا تصح من غير إيمان.
قوله تعالى : {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدلالة على صدق الرسول عليه السلام ، فبأي شيء يصدقون! وكرر : {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} لمعنى تكرير التخويف والوعيد. وقيل : ليس بتكرار ، لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر ؛ كأنه ذكر شيئا فقال : ويل لمن يكذب بهذا ، ثم ذكر شيئا آخر فقال : ويل لمن يكذب بهذا ، ثم ذكر شيئا آخر فقال : ويل لمن يكذب بهذا. ثم كذلك إلى آخرها. ختمت السورة ولله الحمد. والله أعلم .
وإلى لقاء آخر مع تفسير سورة أخرى بإذن الله تعالى ...
المصدر:القرطبي