د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. وهنا نجد أن السياق له دخلٌ كبيرٌ في ذلك العدول، حيث إن السياق كلَّه يتكلم عن الخداع، والنفاق، والمراوغة، فأعِدْ معي قراءة الآية السابقة، وَضَعِ الفعلَ في سياقه من الآيات، ومعناه الوارد فيه:(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)، فهم يتربصون بهم، ويراوغون في مواقفهم، فإن كان لهم (أي للمسلمين المؤمنين) فتحٌ من الله تشدقوا معم، وقالوا:(نحن كنا معكم، ودافعنا، وتحمَّلنا الحرب، وصددنا العدوَّ عنكم)، وإن كان النصر للكافرين قالوا لهم:(نحن استحوذنا عليكم، ووضعنا كل قواتنا لتكون في منعتكم، والدفاع عنكم، ونحن منعناكم من المؤمنين) فهم في كل الأحوال مستحوِذون على الموقفين، مراوغون، منافقون، مسيطرون، فكذلك الفعل نراه قد راوغ، وتربص باللفظ، ونافقه حتى أدخل عليه أنه صحيح، وأنه ورد على وفاق القاعدة، مع أنه مستحوَذٌ عليه، مسيطَر عليه، ومَحُوطٌ به، حتى جاء التذييل يحاكي الخداع:(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ”، فالمسألة كلها خداع في خداع، ومراوغة واحتيال، فأراد القرآن الكريم بهذا العدول أن يتماهَى مع سياقه، ويتضاهى مع دلالته، ويتناغم مع معناه، ومع الظرف الذي وُضِعَ الفعلُ فيه؛ ليحكي ما وراءه من معنى، وما خلفه من مضمون، وما في ظله من معنًى إيمانيٍ، وقيمة تربوية عالية، حتى بدا الفعل خدَّاعا هو الآخر ، كما هو سياق أهل الفسوق، والعصيان الذين يأكلون على كل الموائد، ويتكيفون وفق كل الظروف، ويتماشون مع كل ناعق، فإذا انتصر المسلمون طالتْ ألسنتُهم بأننا السبب، وأننا كنا معكم، وإن كانت الغلبة للكافرين طالت الألسنة منهم، وقالت: منعناكم من المؤمنين، فهم يأكلون على كل خِوَان، ويلحسون طعامَ كلِّ مائدة، ويلوكون على كل سُفْرَة: كذبًا وزرًا، وبهتانًا وخداعًا، وتربصًا ونفاقًا، فجاء الفعل لا هو جارٍ على سنن القاعدة ولا هو متماشٍ مع الأصل والقياس في مثل تلك اللفظة ومجيء البِنْية(ألم نستحوذ) على سنن القاعدة، وظلَّتْ من غير تغيير، ولا أي إعلال، لا نقلًا، ولا قلبًا، ولا حذفا، والعجيب أن نطق الفعل أمسى سهلا، مستساغا كَحُجَجِ هؤلاء تمامًا هنا، وهناك (مع المؤمنين ومع الكافرين)، وكأنَّ الفعل يحكي هذا السلوك، ويرسم سَحْنة وُجوهِ أولئك النفر من المخادعين، ويتحدث بلسان تلك الطغمة الآثمة التي حاولتْ إظهار ما لديها، كأنها فئة مناصرة، وقوية، وموضوعية، وهي في الحقيقة فئة غادرة، متربصة، مخادعة، منافقة، تأكل بكل لسان، وتقمَّم جميعَ الموائد، وتصيد في المياه العكرة، وتستغل كل نَعْرة، وتتسمع كلَّ نَفرة، وتدخل بين كل صيحة، ودعوة على أن أناسا من النحويين قالوا:إن هذا الاستعمال لا يَعرفُ العربي غيره، فالفعل (استحوذ) يرد عندهم بتحقيق الواو، وبقائها واوًا لا تنقلبُ، وهو الأصل في الاستعمال العربي، حيث لم يُستَعْمَل (ألم نستحِذْ)، رغم وجود مُوجِباتِ إعلاله بالإعلالات الثلاثة:(النقل، والقلب، والحذف)، لكنهم قالوا: هذا مستثنًى، والعربي لا يستعمله معلولا، بل يُبقِيه كما هو بحرفه المعتل المتحرِّك، ويعامله معاملة الصحيح، ومما ورد عنهم هذا الحديث من القول كتخريج للظاهرة التي ورد فيها الحرف معتلًا مع موجب إعلاله:(هو مما شذَّ قياسًا، لكنه فصيح استعمالا)، لكونه لم يردْ على وفاق القاعدة، فهو شاذ قياسًا من هذا الجانب، حيث إن القاعدة توجب أن يكون (ألم نستحِذْ)، مثل:(لم يستقِمْ، لم يستقِلْ، لم يستعِرْ) بإعلال بالنقل، ثم إعلال بالقلب، حيث تتحول الواو إلى ياء، ثم إعلال بالحذف، لالتقاء الساكنين، لكنه ورد فصيحًا لأن العربي لا يستعمله معتلًا مطلقًا، فالقرآن لم يأتِ هنا على وفاق القاعدة نعم، لكنه ورد على وفاق الاستعمال العربي السليم، فالعرب يقولون: (استحوذ، ولم نستحوِذْ دائمًا، سواء تقدم معتل أم لم يتقدم).
والقرآن الكريم ـ كما نعلم ـ نزل بلسان عربي مبين، فلم يركنْ إلى القاعدة الصرفية، وإن كانت أصلية، ويلزَم اتباعُها، ولكنْ، نزل القرآن الكريم كما يتكلم العربُ أنفسُهم، وكما هو الحديث بلسانهم، وهذا معنى قولهم في كتب القراءات والتوجيه النحوي، والصرفي:(شاذ قياسًا، فصيح استعمالًا)، حيث إن الرجل العربي لا يستعمل إلا (استحوذ، ويستحوذ، ولم نستحوذ)، وأكد استعمالَه هذا القرآنُ الكريمُ.
فهنا في مثل:(ألم نستعد، ولم نستفد، ولم نستعر)، حدث بينهما إعلالات ثلاثة، الأول إعلال بالنقل، تبعه إعلال بالقلب، ثم إعلال بالحذف إذا تقدم جازم كما رأينا في كل تلك الأفعال الجوفاء المزيدة، مثل: أقام، واستقام، وأعاد، واستعاد، وأمات واستمات، وأعار واستعار، ونحوها من المضارعات المجزومة غير الثلاثية.
على أنه قد وردت أفعال تؤكد هذا الاستعمال، وإن وضعها النحويون في إطار المسموع، لا المقيس عليه، وحجموا استعمالها، وقالوا:(هي مما يحفظ، ولا يقاس عليه، وهو من الذي خالف أصل القياس، ولم يجر على سنن القاعدة، بعدم حدوث أيِّ نوع من الإعلال، لا بالنقل، ولا بالقلب، وذلك مثل: أعْيَلت المرأةُ، أي صار لها عيال، وأحولت، أي مّرَّ عليها الحول، وأغْيَلَتْ الغنم نُتِجَتْ في السنة مرتين، ويقال: أغالَتِ المرأة ولدَها، فهي مُغيلٌ، وأغْيَلَتْ أيضًا، إذا سقتْ ولدها الغَيْلَ، فهي مُغيلٌ، والأصمعي يروي بيت امرئ القيس: فألْهَيْتُها عن ذي تَمائِمَ مُغْيَلِ، وأغالَ فلانٌ ولده: إذا غَشي أمَّهُ وهي ترضعه، فصيره يشرب اللبن في مثل ذلك الموطن، وهو غير جيد، وكاد الرسول أن ينهى عنه، ويأمر الناس بعدم فعله؛ لكونه ضارا بالحمل، إذا حملت الأم، وهي ترضع وليدها الصغير الذي يتطلب لبنا معيَّنا، لا غيلة فيه، وهو الذي يشربه الطفل وأمه قد حملتْ سريعًا بغيره، واستتيست الشاة، صارت في سلوكها كالتَّيْس، واستنوق الجمل، أي: صار كالناقة، وأطولت الصدود، ونحوها مما ذكره الصرفيون في مثل ذلك الموطن من باب الإعلال الذي لم تُعَلَ فيه الكلمات الواردة غير معلولة، والمحفوظة أو التي لا يقاس عليها، أو المسموعة فقط.
وكان القياس في الآية ـ كما سبق ـ أن يقول: استحاذ، وألم نستحذ، لأن الواو إذا كانت عين الفعل، وكانت محركة بالفتح وما قبلها ساكن نُقِلَتْ حركتها إلى فاء الفعل، وقلبوها ألفا اتباعًا لحركة ما قبلها، كقولهم: استحاذ، واستبان، واستعار، واستنار، واستعاذ بالله، وكذا إذا سبقت بحرف جزم أن تكون:(ألم نستحذ)، وههنا تركت على الأصل، وهي لغة القرآن الكريم، أو التي يتكلم بها العرب، في أحد توجيهات الآية النحوية والدلالية، وإن كنا نميل إلى ما سبق توضيحه من كونها جاءت مخالفة للظاهر للعلل المسوقة، والمعاني السابقة والظلال الإيمانية التي وضحناها في محلها، ونواصل الحديث حول العدول النحوي والصرفي في لقاء قادم.
نسأل الله تعالى أن يبصِّرنا بجمال القرآن، وكمال تراكيبه، وجلال ألفاظه، ورقيِّ أساليبِه، وأن يرزقنا من تحصيل اللغة، ومعرفة قواعدها ما يكشف لنا عن سِرِّ بلاغتها، وسببِ جلالها، ومصدرِ جمالها، ومبعثِ سموِّها، إنه وليُّ ذلك، والقادرُ عليه، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
* جامعة القاهرة بكلية دار العلوم ـ جمهورية مصر العربية
DRGAMAL2020@HOTMAIL.COM