د. أحمد مصطفى أحمد:
لا شك أن تجاوز سعر برميل النفط لحاجز الثمانين دولارا للمرة الأولى منذ أكثر من ثلاث سنوات يعد خبرا جيدا للدول المنتجة والمصدرة. كما أن ذلك يأتي في وقت تضاعفت فيه أسعار الغاز الطبيعي أكثر من ثلاث مرات في غضون الأشهر القليلة الماضية. لكن الأهم من زيادة عائدات الدول المصدرة للنفط والغاز هو تأكيد حقيقة أن النفط باقٍ، كما كتبنا في هذه المساحة من قبل، وأنه سيظل لسنوات المحرك الأساسي لنمو الاقتصاد العالمي لعقود. فالسبب في زيادة الأسعار هو الارتفاع الكبير في الطلب على النفط والغاز مع توسع الاقتصاد في أغلب دول العالم بمرحلة التعافي من أزمة وباء كورونا. صحيح أن الضغط على العرض نتيجة قلة الاستثمارات في قطاع النفط والغاز في عام الوباء والسحب من المخزونات خلال تلك الفترة يسهم في تغير معادلة العرض والطلب، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن النفط والغاز لا غنى عنهما للاقتصاد العالمي. وأن الاعتماد عليهما مستمر رغم توجه العالم نحو مكافحة التغير المناخي وتقليل الانبعاثات الكربونية.
رغم استثمار المليارات في الطاقة المتجددة قليلة أو منعدمة الانبعاثات الكربونية، إلا أنها حتى الآن لم يصل ما ينتج منها من طاقة إلى ربع الاستهلاك العالمي. ناهيك طبعا عن تلبية الزيادة في الطلب العالمي على الطاقة مع استمرار النمو والتوسع في الاقتصاد العالمي. وحين تعرضت أوروبا لأزمة بسبب نقص إمدادت الغاز وارتفاع سعره لجأت إلى تشغيل محطات توليد الطاقة بالفحم، وهو أكثر تلويثا للبيئة بانبعاثات أكبر لغاز ثاني أوكسيد الكربون من حرقه في تلك المحطات. ومن الواضح أن وضع سوق الغاز الطبيعي كان أحد أسباب زيادة الطلب على النفط الخام ومشتقاته، ما أدى لارتفاع الأسعار. فالنفط يظل أقل في الانبعاثات الكربونية من الفحم بدرجة كبيرة. ولا يمكن أيضا استبعاد أن التغيرات المناخية تؤثر في إنتاج الطاقة من المصادر المستدامة مثل الشمس والرياح والمياه وغيرها. أما المصدر الآخر منعدم الانبعاثات الكربونية تقريبا، وهو محطات الطاقة النووية، فلا يمكن اعتباره مصدرا مستداما لسببين: الأول هو محدودية خام اليورانيوم في الطبيعة، والثاني هو قصر العمر الافتراضي لتلك المحطات التي يتم إخراجها من الخدمة لاعتبارات السلامة والأمان في غضون عقود قليلة.
بحسبة بسيطة، وأخذا في الاعتبار أنه في عام 2018 كان متوسط ما يخرج من نفط من الخليج عبر مضيق هرمز يصل إلى 21 مليون برميل يوميا، ومع خفض إنتاج أوبك تحويل مسارات بعض النفط يمكن القول إن هناك نحو 18 مليون برميل يوميا تمر الآن عبر الخليج. كان أعلى سعر سابق للنفط قبل أسعار اليوم هو في أكتوبر من ذلك العام، والآن تم تجاوزه. وبما أن أغلب الدول المصدرة تضع ميزانياتها على أساس تقدير سعر البرميل في المتوسط حول تسعين دولارا، فإن الفارق بالأسعار الحالية يضيف ما يزيد على ملياري دولار أسبوعيا لعائدات دول المنطقة. هذه الإضافة ستسهم بالتأكيد في سد فجوة عجز مالية نتيجة أزمة وباء كورونا تعرضت لها دول المنطقة مثل باقي دول العالم. لكن الأهم أنها أيضا ستراكم ما تحتاجه دول المنطقة لتمويل مشروعات وخطط التحول الاقتصادي نحو تنويع مصادر الدخل وجعل الاقتصاد أقل اعتمادا على عائدات صادرات الطاقة. ومن بين مشروعات التنوع الاقتصادي، يفضل أن تحتل الاستثمارات في الطاقة المستدامة والمتجددة أولوية بما يجعل منطقة الخليج في وضع يحافظ على نصيبها من سوق الطاقة العالمي مهما تنوعت مصادر تلك الطاقة.
ربما يتعين أيضا على الناس في دول الخليج ألا تنتظر زيادة في الإنفاق العام أو تخفيف إجراءات الضبط المالي الحكومية نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز. فالأولوية الآن هي للتفكير في المستقبل لضمان تفادي التأثر الشديد بأي أزمة محتملة في الاقتصاد العالمي يتردد صداها في دول العالم بما فيها دول المنطقة. ولدى دول المنطقة وفرة في المصادر الطبيعية المستدامة من شمس ورياح ومياه تمكنها من استخدام بعض الزيادة في عائدات تصدير النفط والغاز للتوسع في مشروعات الطاقة النظيفة. وليكن التنوع الاقتصادي المستهدف متسقا مع التوجُّه العالمي القادم للتنمية، وهو الاعتماد على الاقتصاد "الأخضر والذكي". أي الاستثمار في مشروعات الطاقة النظيفة والتطور التكنولوجي وتطبيقاته في كافة مناحي النشاط البشري. وعلى الإعلام دور مهم هنا في "ضبط" المغالاة في توقعات الجماهير مع ارتفاع أسعار الطاقة، والأهم هو التوعية بأهمية الاستثمار في تلك المجالات الجديدة ليس فقط بغرض التنوع، ولكن أيضا لعدم التخلف عن ركب التنمية المستدامة فيما هو قادم من السنين.
ما يشجع على التفاؤل بوعي الجماهير هو أن حكومات المنطقة تعمل على تعزيز الشفافية، وتحديث أنظمتها المالية والبيروقراطية عموما بما يتفق مع المعايير العالمية. ومنافع ذلك التوجُّه تتجاوز التطوير العام لتشجيع الاستثمار الخارجي وتقليل تعقيدات التعامل مع العالم إلى تسهيل زيادة وعي الجماهير في الداخل بأهمية ما يتم اعتماده من خطط ومشروعات للتنوع الاقتصادي، وإعادة هيكلة القطاعات التقليدية أيضا. ومع توقع استمرار قوة الطلب على النفط والغاز ربما حتى نهاية العقد الحالي، قد تكون هذه فرصة لحكومات دول المنطقة للاستفادة من تحسن العائدات في تمويل التنوع.