"ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض"

أخي القارئ الكريم يـقـول الله تعالى (كل نفـس ذائـقة المـوت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عـن النار وأدخل الجنة فقـد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) سـورة آل عمران 185، فلم يستطـع الناس أن ينـكـروا المـوت، لأنهـم يـرونـه مـاثـلا أمامهم ، يأخـذ الصـغـير والكـبير، ويأخـذ الـطائع والعـاصي ، والمـؤمـن والـكافـر، و ما اسـتطـاعـوا أن ينـكـروه، لأنه يتـجـــدد في كل لحــظـة ، في قـوافـــل تـولـد وتخـرج إلى الـوجـود ، وقـوافـل تمـوت وتـدخـل في عـالم الغـيـب والشـهادة .
وليتصـور الإنسان نفـسه واقـفا عـلى جـبـل يشـرف منه عـلى البشـر، وهـم يسـيرون في قـوافـل، تصـعـد قـافـلة من جهـة ثـم تمـر في الطـريـق، فـتسـقــط من الجـهـة الأخـرى، جـاءوا من الغـيب القـبلي وذهـبـوا إلى الغـيب البـعـدي، فحياتـنا يكـنـفها غـيـبان: غـيـب سـابـق وغـيـب لاحـق، غـيـب سـابـق لا نعـلم منه إلا ما أخـبرنا الله تعـالى عـنه، أو ما يمارسه البشر أمامنا من الحـوادث، التي تـقـع في عـهـدنا، وغـيـب لاحـق إذ لا نعـلم ما يـقـع بـعـد المـوت إلا بمـقـدار مـا أخـبرنا الله تعالى به .
قال تعالى (وجاءت سـكـرة المـوت بالحـق)، هـذا باعـتبار كل فـرد، إذ كل واحد تأتيه منيته في لحـظـة مـعـينة ، لا يـعــلمهـا إلا الله وحـده، قال تعالى (وما تدري نفـس مـاذا تكـسب غـدا وما تـدري نفـس بأي أرض تـمـوت إن الله عـلـيم خـبـير) سورة لقـمان 34 ، وإذا كنت لا تـدري بأي أرض تمـوت، كـذلك لا تـدري بأي سـبب تمـوت، ولا بأي زمـن تمـوت، فـسكـرة المـوت تأتي بغـتة، فـتـقـضي عـلى الأفـراد ما أراد الله لهـذه الـدنيا بـقـاء، ثـم ينفـخ في الصـور فـيـفـنى كل مـن عـلى الـدنيا، وتـلك نهـاية الـكـون.
عــبر بالنـفـخ في الصـور وطـوى فـيه نفـخـتـين، ونحـن نعـلم بنـص القـرآن الكـريـم أن النفـخ نفـخـتان كما قال الله تعالى (ونفـخ في الصـور فـصـعـق من في السـماوات ومن في الأرض إلا من شـاء الله، ثم نفـخ فـيه أخـرى فـإذا هـم قـيام ينـظـرون) الـزمـر68 .
إذن: فالنفـخ نفـخـتان: نفـخـة الصـعــق والحـمام (المـوت)، ونـفـخـة البعـث والقـيام، أما الصـور فـهـو ما عـبر عـنه النبي صلى الله عـليه وسـلم في حـديـثه بالقـرن، والصـور آلة كالـبـوق، ولـكـن حـقـيقـته لا يعـلمها إلا الله ، وكل ما تجـدونه مـكـتـوبا عـن طـول الصـور وعـرضه ، وعـن شـكله وعـن عـدد ثـقـوبه مما دون بعـض المـفـسرين في كـتبهـم فـلا حـقـيـقة له ، أما النفـخ في الصـور فأمـر محـقـق .
خاطب الله تعالى الناس بما تعـودوا التعـامل به في حـياتهـم مـنـذ القـديم، فإذا أرادوا جـمع الناس وهـم مـفـرقـون، أو تـفـريقهـم وهـم مجـتمعــون ينـادون في بـوق، أو يـنـفخـون فـيه نفخـة كـبيرة كي يسمـعهـا الناس، والبـوق: آلة قـديمة تصـنع لأجـل إيصال الصـوت إلى بعـيـد قـد يتخـذ من النحاس أو من مادة أخـرى فـيها رنـين، بحـيث تجـمع الصــوت وتـزيـد في قـوته وتفـرقـه، ولما كان البشر يـعـرفـون هـذا من القـديـم عــبر الله تعالى عـن النفـخ بما يـعـرفـون ويـدركـون، أما اليـوم فـقـد أغـنت عـن هـذا النفـخ مـكـبرات الصـوت .
النافـخ في الصـور هـو إسـرافـيل، وهـو المـوكل بـذلك كما وردت بـذلك الآثار الصحـيحة، كما أن جـبريـل عـليه السـلام هـو الملك المـوكل بالرسـالة والـرسـل، فـقـد جـعـله الله تعـالى واسـطـة بيـنه وبـين رسـله من البشـر، فـكان أمـين الـوحي كما يسمى، كما أن عـزرائـيـل مـكلف بـقـبض الأرواح، كما قال الله تعالى: {قـل يـتـوفـاكـم مـلـك المـوت الـذي وكل بكـم ثـم إلى ربـكـم تـرجـعـون} سـورة السجـدة 11، وإن لم يـذكـر اسمه ولـكـن ذكـر في بعـض الآثار، وهـكـذا يـنـفـذ الله تعـالى في خـلقه ما شـاء من أحـكامه، عـلى يـــدي مـن شـاء مـن مـلائكـته، فهـذا إسـرافـيـل النافـخ في الصـور، ولا نـعـلم عـنه شـيئا وراء ذلـك، ولا عـن شـكله ولا عـن جـسمه ولا عـن عـدد أجـنحـته، ويـكـفي أن نعـلم أنه الـذي ينـفـخ في الصـور.
النـفـخـة الأولى يـصـعــق بها من في السماوات ومـن في الأرض، إلا من شـاء الله ولعـل منهم إسـرافـيـل نفـسه، ثـم يـقـبـض الله تعالى روحـه بعـد ذلك، وهـذا ما يـبـدو لنا بحـسـب عـقـولنا القاصـرة، ولا يجـوز لـنا أن نخـوض في الأمـر أكـثر من هـذا ، فـنتسـاءل : مـن هـم المسـتـثـنـون؟ ، وهـل تقـبـض أرواحـهم بـعـد ذلك ، بناء عـلى قــوله تعالى: { ولا تـدع مـع الله إلها آخر لا إلـه إلا هـو، كل شيء هـالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون} سـورة القـصص 88 ، ولنـقـف عـنـد هـذا الحـد.
النفخـة الثانية هي قـوله تعالى: {ثـم نفـخ فـيه أخـرى، فإذا هـم قـيام ينـظـرون} سـورة الـزمـر 68 ، فـما إن يـقـع النفـخ حـتى يـرجـع كل مخـلـوق إلى الحالة التي كان عـليها في الـدنيا، وكلمة : (إذا) في هـذه الآية للـفـجاءة التي تـدل عـلى السـرعة والبـغـتة ، يـعـني بمجـرد أن ينـفـخ في الصـور يـرجـع الناس كما كانـوا بأرواحهم وأجـسادهـم وجـوارحهم، وكما كان الصـعـق في لحـظـة كـذلك يـكـون الـقـيام في لحـظـة ، لم يكـتـف الله تعالى بقـوله: { فإذا هـم قـيام }فـحـسب ، بـل قال : { فإذا هـم قـيام ينـظـرون } ، حـتى تسير الخـلائـق كلها إلى عـرصات القـيامة في المحـشـر، حـيث يـقـوم الناس كلهـم بـين يـدي الخـالـق عـز وجـل، ثـم تـوضـع المـوازيـن الـقـسـط للحـساب كما قال الله تعالى: {ونضـع المـوازين القـسط لـيـوم القـيامة، فـلا تظـلم نفــس شـيئا، وإن كان مثـقـال حـبة من خـردل أتينا بهــا وكـفى بنا حـاسـبين} سـورة الأنبياء 47 ، وكما قال تعالى: {وأشـرقـت الأرض بنـور ربها ووضـع الكـتاب وجـيء بالنـبيين والشـهـداء وقـضي بينهـم بالحـق وهـم لا يظـلمـون }الـزمـر 69 .
لا نعـلم المـدة بـين النفخــتين ، وإن وردت في بعـض الآثار أن المـدة بينهـما أربعـون عاما ولـكـن لا دليـل يـعـتـمـد عـليه في ذلك، والبحـث في هـذا لا يهـم لأنـه لا يـزيـد المـؤمـن إيـمانا ولا العـلم به يـفـيـد زيـادة في الاطـمئـنان، ومن طـبـع الإنسان أنه يحـب الاطـلاع إلى معـرفة المجهـولات، وبـودنا لـو عـرفـتـنا لنجـد في نفـوسـنا رغـبة للتساؤل كـم هي المـدة التي تفـصـل بـين نـفخـة الصـعـق ونفـخـة البعـث، ولـكـننا إذا رجـعـنا إلى حـقـيـقة الأمـر نجـد أن لا فـائـدة في هـذا تـرجـى أبـدا، لأن الـدنيا قـد فـنيـت، ونحـن في تـلك الفـتـرة مـوتى ، فـما الفائـدة في معـرفة المـدة التي تكـون بـين النـفـخـتين، أهي دقـيقة أو سـاعة أو عـام أو ألف عــام كل تـلك التساؤلات ذهـب وقـتها.
إن هـذا لمن تـرف العـلم وفـضوله، والاشـتغـال به اشـتغـال بما لا يغـني شـيئا، أما لـو ورد فـيه أثـر صحـيح لـقـبلناه عـلى الرأس والعــين، ولكـنه لم يـرد فـلم البحـث فـيه إذن؟، ومجـرد السـؤال عـنه تضيـيع للـوقـت، ولـو اشـتغــل المـرء بـركـعـة واحـد يصليها ، أو آية يـتـلـوها، أو عـلم يسـتـفـيـده لكان ذلك خـيرا له، لأن كل عـلم لا يـؤثـر في العـمل وسلـوك ليست له أية قـيمة، فـقارنـوا بـين عـلمنا بالمـدة التي بـين النفخـتين ، وبـين عـلمنا بأن الله تعـالى أقـرب إلينا من حـبـل الـوريـد ، وأنه يعـلم ما تـوسوس به نفـوسـنا، وأن عـلينا ملكين يحـصـيان أعـمالنا ويـكـتـبان كل ما نقـوله وكل ما نعـمله ، هـذا هـو العـلم المفـيـد .
الـنفـخ قـريب بـدليـل قـوله تعـالى: {أتى أمـر الله فـلا تسـتعجـلـوه} سـورة النحـل 1 وقـوله تعالى : { اقــتـرب للناس حـسابهـم وهـم في غـفـلة معـرضـون ما يأتيهـم مـن ذكـر من ربهـم محـدث إلا اسـتمعـوه وهـم يـلـعـبـون}الأنبياء 1/2 ، وغـيرها من الآيات الكـثيرة التي تـدل عـلى قـرب قـيام الساعة، وقـد قال النبي صـلى عـليه وسـلم ، ( كـيـف أنـعـم وقـد التـقـم صاحـب القـرن قـرنه، وأحـنى جـبهـته، وأصـغى سـمعه ينتظـر الإذن بالنفـخ) ، الـتـقـم يـعـني: وضـعه في فـيه ، وأحـنى جبهته إجـلالا لله تعالى وخـضوعـا لعـظـمتـه، ينتـظـر اللحـظة التي يأمـره الله فـيها بالنفـخ .
قال الصحابة: يا رسـول الله فـماذا نقـول؟، قال: (قـولـوا حـسبنا الله ونعـم الـوكيـل) عـن أبي سعـيـد الخـدري رضي الله عـنه قال: قال رسـول الله صلى الله عـليه وسلم : ( كـيـف أنعـم وقـد الـتـقـم صاحـب القـرن قـرنه، وحنى جـبهته وأصغى سمـعه، ينـتـظـر أن يـؤمـر أن يـنفـخ فـينـفـخ) قال المسلمـون: فـكـيف نقـول يا رسـول الله ؟ قال : ( قـولـوا حـسبـنا الله ونعـم الـوكـيـل ، تـوكلـنا عـلى الله ربنا) أخـرجـه الترمـذي كتاب تفـسير القـرآن .
وليس مـراده أن نقـولها بألسـنـتـنا فـقـط، وإنما أن نـدرك مـعـناها حـق الادراك، وهـو أن الله تعـالى كافـينا فـنتـضـرع إليه وحـده، ونـسأله جـلب النفـع ودفـع الضـر، فـكل شيء مـنه وحـده لا شـريـك له، نعـم الـوكـيـل ولا وكـيـل مـع الله .
وللحـديث بقـية إن شـاء الله نـواصله في حـلقة قـادمة..

ناصر بن محمد الزيدي