[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
عقب نكسة 1967م رفض جمال عبدالناصر الاستسلام للهزيمة, وشرع في إعادة بناء الجيش المصري والاستعداد لرد الاعتبار, وكانت معركة رأس العش التي دارت أحداثها بعد أقل من شهر على وقوع النكسة؛ عندما حاولت المدرعات الإسرائيلية احتلال مدينة بورفؤاد لكن قوات الصاعقة المصرية نجحت في التصدي لها, وإجبار الصهاينة على الانسحاب, لتكون شرارة البداية لحرب الاستنزاف ونصر أكتوبر المجيد.
وكان لا بد من إعادة ترتيب الجبهة الداخلية للتخلص من آثار العدوان وإعداد البلاد لتحمل أعباء الحرب القادمة, قرر ناصر التخلص من الحرس القديم, والاستعانة بأفكار ودماء جديدة للقيام بهذه المهمة, فوقع اختياره على الدكتور عبدالعزيز حجازي لشغل منصب وزير الخزانة, وكلفه بإعداد دراسة عن كيفية إزالة الآثار المترتبة على النكسة, وإعادة تنظيم الدولة ماليًّا وإداريًّا, واقتصاديًّا. نجح الدكتور عبدالعزيز حجازي في مهمته واستطاع توفير التمويل اللازم لحرب الاستنزاف وإعداد الاقتصاد المصري لحرب أكتوبر, الذي بدأ الإعداد لها منذ مارس 1968م تاريخ تولي حجازي الوزارة والذي قال عن هذه الفترة: عملت وزيرًا للخزانة في فترة من أصعب الفترات التي مرت بها مصر, كانت سنوات عجاف, اضطررنا جميعًا خلالها لشد الحزام, كانت تعليمات عبدالناصر واضحة: لا شيء يعلو فوق صوت المعركة, لا أنسى كيف أبلغني ناصر أننا فقدنا 90% من أسلحتنا، وأن خسائرنا العسكرية تقدر بعشرات المليارات بخلاف آلاف الشهداء والمصابين, في عام 1970م قبل وفاة عبدالناصر بشهور كلفني بتدبير 100 مليون جنيه خلال أربعين يومًا لبناء حائط الصواريخ لتقوية دفاعاتنا الجوية التي انتهكها الطيران الإسرائيلي عندما أغار على مدرسة بحر البقر جنوب بورسعيد, كما شاركت في وضع خطة تهجير ما يقرب من نصف مليون مواطن من منطقة القناة, اضطروا لترك منازلهم جراء العدوان الإسرائيلي.
وعن علاقته بعبدالناصر قال حجازي: كان إنسانًا متواضعًا, حاد الذكاء, لم يكن ديكتاتورًا كما يردد البعض, ولكن قوة شخصيته توحي بذلك الانطباع لمن لا يعرفه جيدًا, كان أول لقاء بيننا في احتفالات عيد العلم بجامعة القاهرة عام 1954, وعندما قرر ناصر تأسيس هيئة التصنيع عام 1956 وعهد برئاستها للدكتور عزيز صدقي وزير الصناعة آنذاك, طلب ناصر من الدكتور مصطفى خليل (رئيس وزراء مصر الأسبق) ترشيح أحد شباب الاقتصاديين للانضمام لمجلس إدارة الهيئة التي كانت مهمتها إعداد أول برنامج تصنيع مصري, وكنت أول مصري يحصل على الدكتوراه في المحاسبة, وقدمت الهيئة دراسات قيمة, وكانت بمثابة بيت خبرة في كل المشروعات العملاقة التي تم إنشاؤها في ذلك الوقت مثل مصانع الحديد والصلب, ومجمع الألمنيوم, ومصانع الغزل والنسيج.
وعن أولويات عبدالناصر التي كلفه بها يقول: كلفني عبدالناصر بمراعاة الطبقات الفقيرة, والإعداد للمعركة, وضغط الإنفاق الحكومي, وتوفير الاعتمادات اللازمة لاستكمال خطط التنمية, كان عبدالناصر يحصل على المعلومة من أكثر من مصدر, ولا يكتفي بكلام المسؤول أو الوزير.
وعن علاقته بالرئيس السادات قال حجازي: كان السادات لا يحب الدخول في التفاصيل ولا يطيق قراءة الدراسات والتقارير عكس عبدالناصر, وكان كلما عرضت عليه أوراقًا أو ملفات عن الخطة والموازنة؛ كان يقول: "أبعدها عني" هذه الأوراق هي السبب في موت عبدالناصر, عملت مع السادات خمس سنوات وزيرًا للاقتصاد والمالية والتجارة الخارجية, ثم نائبًا أول لرئيس الوزراء, ثم رئيسًا للوزراء, وكنت حريصًا على تدبير أقساط القروض في مواعيدها, حتى لا يتدخل البنك الدولي إلاّ في أضيق الحدود, وقبل حرب أكتوبر 1973 كانت كل الديون مدفوعة, باستثناء الدين العسكري للاتحاد السوفييتي, ولم تتجاوز نسبة التضخم 5%.
لم تدم رئاسته للوزارة أكثر من سنة, انتهج خلالها حجازي سياسة الانفتاح الاقتصادي, وإزالة القيود أمام الاستثمارات الأجنبية في مصر, وإنشاء المناطق الحرة, وتشجيع الاستثمارات الصناعية, نجح حجازي في جذب الاستثمارات في قطاع البنوك, ولكنه فشل في القطاع الصناعي, نتيجة الاندفاع الاستهلاكي الذي أدى لظهور طبقة طفيلية من التجار الانتهازيين, مما أدى لارتفاع الأسعار وخروج مظاهرات عام 1975م تهتف: "حجازي بيه يا حجازي بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه, وحكم النازي ولا حكم حجازي", ليستغل وزير الداخلية في ذلك الوقت ممدوح سالم (الذي لم يكن على وفاق مع حجازي) الفرصة, ليوعز للسادات بإقالة حجازي لتهدئة الشارع, ويستجيب السادات للوشاية, ويطيح بحجازي, ويعين ممدوح سالم رئيسًا للوزراء.
وعن عصر مبارك قال حجازي: السنوات العشر الأخيرة في عصر مبارك شهدت فسادًا حكوميًّا, وترهلًا إداريًّا أدى لانتشار العشوائيات, والفقر, والجهل واتساع الهوة بين الطبقات, لنرى "منتجعات هنا, وعشوائيات هناك". ورغم ارتفاع معدلات النمو إلاّ أنها لم تنعكس على الطبقات الفقيرة بسبب انحياز النظام لرجال الأعمال, وتراخيه في تحصيل الضرائب ومستحقات الدولة من الأغنياء وأصحاب المصالح والنفوذ.
ودافع حجازي عن اتهامه بأنه الأب الشرعي لسياسة الانفتاح الاقتصادي في عصر السادات الذي أطلق عليه انفتاح "السداح مداح" بقوله: أنا غير مسؤول عما حدث بمصر بعد يناير 1975م, عقب فشل سياسة الانفتاح الاقتصادي بسبب سوء تطبيقها, أنا شريك فقط في المسؤولية عن الفترة من 1968 حتى 1975م، مؤكدًا أن الانفتاح لم يكن نظرية فلسفية، ولكن حاجة وطنية وضرورة فرضتها الظروف المحيطة بمصر عقب نصر أكتوبر 1973م, وتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل, وعودة العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية, ولكنه فشل لأنه لم يحل المشاكل المزمنة التي تعاني منها مصر من فساد وسوء إدارة, وبيروقراطية, رغم توافر الموارد والمقومات والطاقات البشرية.
في السنوات الأخيرة تحول اهتمام حجازي للاقتصاد الإسلامي وعن هذه التجربة قال: أعكف على توثيق التجربة الإسلامية في الاقتصاد التي تقوم على الإعمار والعدل الاجتماعي, وإعلاء قيم الحرية الفردية والمنافسة, وتحرم الاحتكار, وتشجع تحريك رأس المال لا اكتنازه, فحين يقل معدل الفائدة وتصبح صفرًا, فإن الاستثمار يتصاعد وهو ما يحدث في سويسرا وكثير من اقتصاديات الغرب, ورأى حجازي أن المعاملات في الإسلام لا علاقة لها بالعبادات, وأن الاقتصاد الغربي تنبه مؤخرًا للاقتصاد الإسلامي, وصار يأخذ منه, وأصبحت البنوك الأميركية تفتح فروعًا للمعاملات الإسلامية تجد رواجًا كبيرًا من المسلمين ومن غير المسلمين, كما توجد جامعات في إنجلترا تدرس الاقتصاد الإسلامي.
وعن موقفه من الدعم رأى حجازي أنه يجب ترشيد الدعم, وضمان وصوله لمستحقيه, وكان يعيب على أنظمة الحكم في الدول العربية أنها تدعم الغني والفقير على السواء, وهو الأمر الذي تفتح بابًا خلفيًّا للتربح والفساد, وكان يرى أن الدعم النقدي أفضل لضمان وصول الدعم لمستحقيه.
تولى عبدالعزيز حجازي رئاسة لجنة الحوار الوطني عقب ثورة يناير 2011م, والإطاحة بنظام مبارك, ولكن حالة التناحر والفوضى التي سادت المؤتمر أفشلت الحوار, نتيجة تعدد ائتلافات شباب الثورة, وحالة الشك والتخوين التي سادت أجواء المؤتمر, فضلًا عن حالة الانفلات التي عمت المجتمع المصري عقب نجاح الثورة مما عجل بفشل الحوار, واختفاء الدكتور حجازي عن الساحة السياسية, واتجاهه للعمل الأهلي, وكان يشغل عند وفاته منصب رئيس الاتحاد العام للجمعيات الأهلية التي وصل عددها لأكثر من 30 ألف جمعية, تغطي مختلف مجالات العمل الأهلي, وكان يرى أن العالم يتجه الآن للمنظمات الأهلية, ويقلص الاعتماد على الحكومة.
رحم الله الدكتور عبدالعزيز حجازي جزاء ما أعطى لوطنه وأمته العربية, من جهد وعلم, ومؤلفات, وأجيال عديدة تتلمذت على يديه في كليات التجارة, والاقتصاد بالجامعات المصرية والعربية, على مدار أكثر من ستين عامًا, ظل حجازي يعمل خلالها حتى سن الحادية والتسعين بنشاط وهمة عالية, وكان يقول: ما زلت أعمل وأكدح امتثالًا للآية الكريمة: "إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه".