سعود بن علي الحارثي:
زيارتي الأولى لقرية "وكان" النائمة في أحضان "قرن وكان" والمطلة على مجرى وادي "المستل" كانت قبل أكثر من أربعة عقود، بصحبة آبائي استجابة لدعوة تلقوها من أصدقاء لهم هناك، حينها كنت أودع سنين الطفولة القصيرة بشقاوتها وبراءتها، وأدخل شيئا فشيئا إلى مرحلة الشباب بطموحاتها وتطلعاتها وشغفها بالمستقبل، سلسلة من الآمال والأحلام والرؤى والأهداف المرتبطة بالعلم والعمل، بالوظيفة والترقية والمنصب، بالزواج والأسرة والقيادة وتوفير السيارة والبيت، وتعزيز الموارد والثراء واكتساب المهارات والمعارف والمنافسة الشرسة في حقول الحياة وساحاتها وفضائها الواسع والضيق في آنٍ، ما الذي تحقق وأنجز؟ وما الذي فشلنا في بلوغه وأخفقنا وكبت بنا الأقدام وعجزت الإرادة واستسلمنا للمعيقات والإحباطات؟ كثير من هذا وقليل من ذاك، و"القناعة كنز لا يفنى"، والحياة جميلة مفعمة بالحيوية والتشويق والإثارة، والصحة والسعادة وتجدد الآمال أعظم ما تهدينا إياها، فبخٍ بخٍ لمن أحسَّ بها وآمنَ وقنع، كيف مرَّت الأيام والسنون بهذه السرعة؟ أين كنا وكيف أصبحنا؟ ما الخبرات والتجارب والدروس التي أكسبنا إياها الزمن؟ وكيف كان تجاوبنا ونظرتنا وتطورنا للتحولات العميقة التي عصفت بنا؟ ولم تعش البشرية في أطوارها وأزمنتها وأجيالها تطورات وتحولات كما يشهدها جيلنا، ثورات علمية تقلب كل شيء وتلغي وتمسح قِيَما وأعرافا وتقاليد وأفكارا وثوابت أسست لمناهج ومذاهب وعقائد، وتحولات فكرية وسياسية ورخاء اقتصادي وتقدم هائل في مختلف حقول ومجالات المعرفة، وطفرات لا نكاد نستوعب ونفهم إحداها حتى نفاجأ بالجديد والجديد، يموت من يموت ويولد من رحم الأحياء أجيال جديدة، تمضي الحياة وتسير بنا الأقدام وتواصل البشرية إنجازاتها الحضارية فـ"العمر يهرم والآمال ولدان"، هل أصابني داء التحول؟ فانتقلت بموضوع مقالي من زيارتي الأولى لقرية "وكان" إلى تحولات الزمن وتطوراته، ومسار حياتي ومحطاتها، وما بلغته البشرية من طفرات علمية وفكرية وما استوعبناه من دروس وخبرات وما التبس علينا وتبخر؟ وما علاقة قرية "وكان" الهادئة الفاتنة النائمة في أحضان عظيمها بكل ذلك؟ وهي هي كما زرتها قبل أكثر من أربعة عقود، وكأن الزمن لم يجر عليها تغييرا ولا تحديثا ولم يضف عليها شيئا، فهي في دعتها وطبيعتها وإطلالتها وشكلها الخرافي الذي يثير الإدهاش والإعجاب وموقعها المعلق بين السماء والأرض لم تخضع لقانونه، أي الزمن ولم تأبه لحركته وما يصنعه في الإنسان وعناصر الحياة ومخلوقاتها وتشكيلاتها ومكوِّناتها، إنها في حالة عناد وتحدٍّ وشموخ وأنفة كسبتها من أولئك المؤسسين الأوائل الذين ضخوا في أوصالها وقواعدها وأوتادها وأبراجها وتحصيناتها وبساتينها وسواقيها وبيوتها قوة الإرادة والصلابة والشموخ والإباء والقدرة على المقاومة والصمود أمام قوى الطبيعة ورياح الزمن العاتية... كيف اختار المؤسسون أو المؤسس هذا الموقع المنزوي البعيد الشاق، الغارق في الصمت والسكون، المحافظ والمدافع عن بكْرِه وبدائيته؟ من دلهم وقادهم لهذا المكان؟ وهل قاموا بمسح المنطقة بالكامل وكان هو خيارهم بعد تفوقه على خيارات أخرى؟ لماذا هنا، وفي هذه المنطقة بالذات؟ هل نأيا وبُعدا عن التجمعات البشرية الأخرى وصخب المدن؟ هل انتصارا للطقس المعتدل والنسيم العليل المنعش الذي يتمتع به ويبدع فيه الإنسان؟ هل لدواعٍ أمنية ودفاعية ولتعزيز الاستقرار؛ لكونه ـ أي الموقع ـ يتربع في أحضان الجبال ويطل على المنطقة ويمكن مراقبة تحركات الأعداء والدفاع عن القرية بسهولة ويسر؟ هل لأن المؤسس أراد طقسا وموقعا وأنواعا من الأشجار يشبه قريته التي هاجر منها من بلد ما من بلدان العالم؟ الله أعلم بالدوافع والأسباب والمحفزات التي خلقت هذه الإرادة الإنسانية المتفردة، وقدمت لنا صلابة وقوة وعظمة وعبقرية الآباء المؤسسين الذين يحار العقل البشري أمام المنجز الذي خلفوه وما "وكان" إلا نموذجا وليس استثناء بالطبع. زرت قرية "وكان" مرَّات بعد ذلك بصحبة أفراد أسرتي وأصدقائي، آخرها قبل أسابيع، وعندما كان مؤشر الحرارة في سيارتي يعلن عن درجة تلامس الـ"٤٧" درجة، في بطن وادي "مستل" بدأت في التراجع تدريجيا كلما ارتقت بنا السيارة إلى الأعلى، فيما أنواع الأشجار والنخيل التي يتراجع عددها كذلك في قرى الغبرة ـ جما ـ إمطي ـ الجيلة ـ الهجار والقورة... المتناثرة في السفح تشير إلى التغير الذي يطرأ على درجات الحرارة، فما يقوى على الصمود منها في قرى السفح لا يصلح لطقس "وكان" البارد. عندما استقر مقام السيارة في الموقف العام على مدخل قرية "وكان" كان مؤشر الحرارة يتأرجح بين الـ"٢٩" والـ"٣٠" درجة في طقس معتدل ينعش القلب ويبهج الروح، أخذنا جولة في أزقة القرية وبين بساتينها التي تتدلى من أشجارها ثمار الرمان والخوخ والعنب والجوز... وتتضوع سماؤها بروائح الياس والأزهار البرية والعشب الجبلي... في مشهد سريالي يقدم لنا قرية "وكان" وكأنها خارج المكان والزمان وليست جزءا من عالمنا الأرضي، هنا يشعر الإنسان بالراحة والطمأنينة والهدوء وتتفتح المدارك ويبدع العقل وتزهر الحواس وإحساس بأشياء وأمور يصعب التعبير عنها ووصفها في كلمات، وصفها ليتشكل منها مقال، فذلك فوق الوصف وأكبر من الكلمات. جلست في مكان نائي تظلني شجرة رمان وتعريشة عنب، وتحيط بي شجيرات جوز والماء يجري بحماس ونشاط في ساقية الفلج متدفقا من منابعه في قمة الجبل إلى بساتين القرية الممتدة بشكل طولي لعدة مئات من الأمتار، تكبر الأسئلة وتشتد حالة الإدهاش وتتسع الأمنيات والأحلام، ويسيل مداد القلم مسودا الصفحات، وقد آن له أن يتوقف قليلا كي لا يزعج العصافير والفراشات ونحلات العسل واليعاسيب... التي تعيش جنتها في قرية "وكان" الفاتنة، التي نتطلع إلى إنهاء شارعها المعبد ليصل إلى مركز القرية، وإلى تخصيص وتهيئة مواقف واسعة ومهيأة للسياح والزوار، وتوفير خدمات أكثر جذبا وراحة للسائح.