د. رجب بن علي العويسي :
في واقع اجتماعي يعيش التراكمات، ويواجه التحديات، تتصارع فيها الأفكار، وتتقاطع خلاله الاهتمامات، وتتباعد فيه الأولويات، تبرز فيه صفة الذاتية والأنانيات، وتضيع فيه مشاعر الود والرحمات، وتشيع فيه مساوئ المشاحنات والعداوات، وتشتد فيه وطأة الفردانية والسلطوية والكراهيات، عندها نطرح كغيرنا الأسباب التي تقف خلف هذا التهور الأسري، والفاقد الاجتماعي الناتج عنه، والقلق الفكري والنفسي الذي بات يعايش حياة العديد من الأسر، ويخيِّم على مكوِّنات البيت الداخلي، ولنتعمق أكثر حول السر الذي جعل حياة كثير من الأسر على شفا جرف هار، ليبرز إلى السطح نفوق ثقافة الحوار الأسري، وإغلاق أبوابه، وتهميش نواتجه، وتقليص صلاحياته، وغياب مريديه، ذلك السر المفقود، الذي أفقد وجوده، حياة كثير من الأسر توازنها، وأضاع أمنها وأمانها، تاركا فجوة اجتماعية لا تلتئم، وكيان أسري مبعثر، ليسدل الستار على حياة الود والوئام، والحب والسلام، فإن الواقع الأسري والاجتماعي اليوم وما يعيشه من اختلالات في ميزان العلاقات، وتقاطعات في جسور التواصل، ومنغصات باتت تشوه صورة الأسرة، وتعمل على زعزعة الاستقرار وانتزاع روح الأخوة، وإحداث تشققات غائرة في جسد الأسرة الواحدة، وبنيانها الداخلي وعلاقاتها المجتمعية، في ظل ما ترصده المحاكم والمؤسسات الضبطية والقضائية والشرطية، خير شاهد على هول الأمر وفجاعته.
من هنا لم يكن الحوار غاية في حد ذاته، بقدر ما هو وسيلة لبناء الحياة، وإنتاج الواقع الأسري، وتوجيه الاهتمام إلى المشتركات القيمية والأخلاقية والإنسانية بين أبناء الأسرة الواحدة، والبشر جميعهم لتكون لهم داعما في العمل الموحد، والهدف الطموح، والمقصد الموجه، ويقلل من فجوة التباعد التي بات يعيشها المجتمع في اهتمامه بمصالحه وأولوياته على حساب مصالح الآخرين واهتماماتهم وأولويات البيت الأسري ليتسع الحوار فيشمل المنظومة المجتمعية بأكملها، بين الجيران، والأصدقاء، وأهل الحي السكني، وبين أبناء العمومة وأبناء الخؤولة ومن في حكمهم، وبالتالي ما يمكن أن يحدثه الحوار من تغيير في معادلة التواصل وآلية العمل لتقوى في ظلاله احترام الاختلاف، وتعددية وجهات النظر، ومنع مصادرة الفكر، فيعش الناس بروح الحوار مدد الحياة الآمنة المطمئنة التي يجد فيه الجميع امتدادا لحياة مملوءة بالفرص، والاستقرار النفسي والفكري وتراعي فيه الحقوق كما تراعي في الظروف.
إن الحوار بذلك حياة ممتدة، وبيئة خصبة لبناء حياة متجددة في بنيتها الفكرية والنفسية، وبناء أنماطها القائمة على المودة والرحمة والحب والعطف، والحنان وحس الشعور وصدق المشاعر، ورقابة الذات، وترسيخ مبادئ الثقة نحو الآخر المشترك في محيط الأسرة الواحدة، وترسيخ عرى الترابط والتكامل في البيت الداخلي، إنما إعادة إنتاج الحياة، في ظل استشعار جمعي مشترك بقيمته، وقوة تأثيره، في رسم معالم الحياة في صفائها وهدوئها وتفاعلها وتفاؤلها، وتقوية أرصدة التأثير والقدوة، وموجهات الإصلاح والالتزام، وإنتاج الذات الراقية في تصرفاتها وأفكارها ودوافعها، إنه مساحة عملية لتجسيد مفهوم الخيرية في النفس، وحب الإصلاح في القلب، بما يتولد عنه من تأطير مقومات البناء الأسري الناجح، في منظومة أسرية يشد بعضها بعضا، ويقوم فيها الجميع على رعاية بعضهم البعض، يشعر غنيهم بحاجة فقيرهم، وقويهم بمسؤوليته نحو ضعيفهم، فتتولد بهذا الشعور حياة جديدة ملؤها الحب والتعاون والسعادة، وعندها تتزحزح كل مطبات التعايش، ومنغصات العيش، ومقلقات التآلف، ومسببات الخوف والقلق، وأمراض النفس الأخرى كالحسد والوسواس والكيد والحقد والظلم والافتراء والإشاعة التي نشطت في المجتمع بسبب انكسار جسور الحوار وسقوطها من علوها.
وتبقى فضيلة الحوار خيوط ممتدة لا تنتهي، وجسر عبور لا تنقطع، ومحطة انطلاقة جديدة، والتقاط الأنفاس لإعادة قراءة الواقع الأسري وتشخيص السلوك الاجتماعي، والوصول إلى قرار حاسم، أو حلول مقنعه، تعكس جانب الاهتمام الشخصي والشعور الذاتي والجمعي بالمسؤولية نحو الآخر، وتوجيه نواتج الحوار لمزيد من الثقة وتبادل الآراء وتقاسم مشتركات العمل، وإنتاج حلول للمشكلات الأسرية العامة منها والخاصة، يبني ولا يهدم، يقرّب ولا يبعد، ويحمي الثقة ولا ينتزعها، لبناء حياة أسرية تعيش أفضل ظروفها، وأدق تفاصيلها، واصدق مواقفها وذكرياتها الحالمة، فيجسد في ذهن الفرد وقناعاته الشعور بقيمة الآخر المشترك، الأمر الذي يضيف إلى حياة الأسرة مزيدا من الحركة والديناميكية والمرونة والأريحية وتعدد الأدوات التي تستخدمها في التعامل مع منطق الحوار الرصين، ويصبح الالتزام بمنهج الحوار الأسري محطة عمل لبناء فقه السلام الأسري، وخلق جو الأسرة المفعم بالأُنس والسكن والجمال، ومشاركة الجميع في رسم ملامح مستقبل الأسرة وتعاطيها مع التحديات، وإشراك الجميع في الوفاء بالتزاماته وتحقيق مسؤولياته وإدارة ممارسات لكسب المزيد من الوقت والجهد من أجل ضمان المحافظة على سقف الضمانات الأسرية حاضرا، لا يشوهه الاختلاف في الرأي، والتقاطع في الاهتمامات، أو التباين في وجهات النظر، أو بعض الثغرات والتصرفات الأحادية الناتجة عن التصادمات البينية في الأسرة الواحدة وسوء التفاهم الحاصل بين زوجات الأبناء مثلا أو غيرها من الممارسات الأخرى، وهنا يأتي الحوار في التخفيف من حدة التسرع والغضب، والوصول إلى نقاط التقاء مشتركة خاصة في التعامل مع المراهقين والشباب في الأسرة وتلبية مطالبهم، ومعالجة الهاجس الحاصل لديهم، مع الأخذ في الاعتبار دراسة كل المبررات والمسوغات التي تساق حول موضوع النقاش وأبجديات، بما يستدعيه ذلك من تقدير الحالة الفسيولوجية والظروف النفسية للوصول إلى معالجة مقنعة، وحوار هادف يبني قواسم مشتركة في العمل، ونواتج نوعيه تعتمد على الفهم والانتظار في إصدار الحكم، والتعامل معه بوعي وحكمة وحسن تصرف.
وبالتالي سيظل الحوار الأسري نقطة الالتقاء في حلحلة كومة التراكمات الأسرية، والتصدعات الاجتماعية، وهشاشة البيت الأسري التي باتت لا تصمد أمام أي اختلالات فكرية أو نفسية أو مواجهات حاصلة بين أحد عناصرها حتى مع أتفه الأسباب، لذلك كانت المحافظة على بقائه وتماسكه وفاعليته وحضوره، الطريق لتجنيب الأسرة كوارث التنازع والتصادم والاختلاف والتشتت وحالة الانكسار التي تعيشها، ويبقى صموده الركن الأساسي الذي تتقارب معه الأرواح وتتفاعل مع العقول الحالمة بالحياة في حضن الود والوئام، وتجتمع حوله الرؤى والتطلعات، فهو أداة البناء، وطريق القوة، ووسيلة تحقيق الوئام، وطريق تصفية النوايا، وتصحيح الممارسات، وخلق روح الود والرحمة والتآلف، وترسيخ عرى المودة والتعايش، وإعادة استنطاق قِيَم المجتمع وهُويته الدينية والأخلاقيات والمبادئ وقواعد السلوك العام في الأسرة، والثوابت والمتغيرات التي يؤمن بها الجميع، وإبقاء خيوط التفاهم والتسامح متجذرة بعمقها في كل تفاصيل الحياة الأسرية، ومنظومة العلاقات والأفكار والاتجاهات، بل سوف يؤسس لمرحلة أعلى من الوعي في وأد مسببات الخلاف الأسري، بالشكل الذي يضمن الاستثمار في الموارد الذاتية بالأسرة، ومنظومة المهارات والاستعدادات ونواتج التعلم وأطر القيادة وغيرها من الجوانب المهمة في حياة الأسرة، باعتبارها الطريق السليم إلى تعزيز القدرات الأسرية والثقة فيها، واكتشاف المواهب الداعمة والمهارات الناعمة لتعزيز الكيان الأسري والمحافظة على النسيج الاجتماعي، وخيوط الاتصال والتواصل وروابط ووشائج القربي والعلاقات الأسرية في أفضل حالاتها، وأدق ملامحها قوة وتفصيلا.
وعودا على بدء، فإن مما يجب الإشارة إليه في حديثنا عن الحوار الأسري، دخول الهواتف النقالة التي شغلت الأسرة عن كل حوار، وألجمت العلاقات عن أي تفاعل، وأسدلت الستار على مواقف الضحك والمرح واستعادة الذكريات، حتى أصبحت الأسرة تدفع ضريبة هذا الاستخفاف الحاصل بمسار الحوار، بما يؤكد الحاجة اليوم إلى إحداث ثورة الذات في مواجهة كل أشكال التغريب للحوار، والتهميش والإقصاء لمسار التواصل المتعدد الاتجاهات، والذي بات نفوقه في حياة الأسرة ينذر بكارثة إنسانية، وعقوق وهجر وانتزاع للثقة، وهروب من الواقع، والارتماء في أحضان منصات التواصل الاجتماعي، وانتكاسات قد تعيد إلى الواجهة السقوط الأخلاقي والاتجاه للعلاقات السطحية والخروج عن المألوف الأسري، فيبقى الجسد حاضرا في البيت، غائب التفكير والسلوك يجتاز حدود منزل الأسر المحصّن، ويصطدم بممارسات مبتذلة من بنت أو ابن تتنافى مع كل القِيَم والأخلاقيات والحشمة والستر، وتتجاوز حدود التربية الوالدية التي تربى خلالها الشاب أو الشبابة، على العفة والستر والاحتشام والمحافظة على خصوصية المرأة، لتطلق العنان لنفسها خارج حدود الرقابة، التي لم تلتفت إليها الأسرة ولم تحتوِها، أو تؤسس حالة الحوار والنقاش والفضفضة معها المفضية إلى تلمُّس الاحتياج والوقوف على عين المشكلة، وعندها ولات ساعة ندم.
أخيرا، يبقى التعاطي مع هذا الواقع وإدارته مرهونا بالرقابة الذاتية الأسرية وترسيخ الحوار كاستراتيجية حياة مع الأبناء وفيما بينهم، وحجم الجهد الوطني المبذول في تبنِّي سياسات عملية لإدارة الحوار الأسري، بما يستدعيه من تقوية التشريعات والقوانين والأنظمة التي تفرض الحوار لغة عمل مشتركة، والتربية الحوارية القائمة على استحضار معايير الحوار الفعال، وفق أطر عمل واضحة تضمن لكل فرد حصوله على حقوقه المشروعة له والمكفولة له بحكم الشريعة والقانون، والتزامه بواجباته في ضوء قناعة وفهم تأمين، وبالتالي البحث عن آليات وسبل جديدة لتطوير أسلوب الحوار الأسري، وتبنِّي البرامج المتخصصة والمجربة في تعزيز لغة التواصل على مستوى الأسرة، مما يتطلب نهجا تطويريا لثقافة الحوار، وطرحا لها في ميدان المنافسة الأسرية، وقراءة معمقة لواقع الحوار وأشكاله، وتحليلا لأسباب غياب ثقافته، وعندها تصبح ثقافة الحوار الأسري ممارسة عملية واقعية تجسدها روح المسؤولية وصحوة الضمير.