بدر بن سالم العبري
نتأمل اليوم في بعض جوانب ولادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم -، فقد مات أبوه عبد الله قبل ولادته عليه السلام، ولم يكحل عيناه برؤية أبيه، فعاش في كنف جده عبد المطلب، برعاية وحنان أمه آمنة بنت وهب.
عاش النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بداية أشهره الأولى متمتعا بحنان أمه، إلا أنّ هذا الحنان لم يدم، بسبب ما تعانيه أمه من جفاف لبن الضرع، فأرسِلَ إلى البادية لترضعه حليمة السعدية، فكانت أمه من الرضاعة.
وبعد أن أتم الحولين رجع إلى أمه ليلهو بين جنباتها، وتلاعبه بحنانها، إلا أنّ هذه الفرحة لم تدم؛ فقد فارقته أمه وما زال في السادسة من عمره، فكان عليه الصلاة والسلام يتيم الأبوين.
ومع عناية جده به إلا أنه هو الآخر فارق الحياة تاركا النبي في كنف ابنه أبي طالب عم النبي عليه السلام، وكان عمره عليه السلام عند وفاة جده ثماني سنوات.
إذا كما ترون ولد النبي يتيما، وعاش يتيما، وهذا لحِكَم عديدة منها:
- شاء الله تعالى أن تكون تربية النبي على يديه، فهيأ الأسباب لصلاحه واستقامته، فكان منذ صغره صادقا أمينا، شجاعا مخلصا، فالله تعالى هو الذي تولى العناية به في صغره، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى}.
-في هذا تربية للنبي – عليه السلام – لكي يعتمد على نفسه منذ صغره، ولا ييأس في الحياة، فينتظره مستقبل لا بد أن يعدّ عدة الصبر والثقة بالذات لتحمله ومسايرته.
- وفي هذا أيضا تربية له ولنا جميعا أن لا نستهين بأمر اليتامى، ويدخل فيهم أولاد الفقراء والمساكين، فللناس طاقات إذا أهملت بسبب يتم أو فقر كانت الخسارة للمجتمع وخيمة، فكم من يتامى عندما وجدوا المجتمع مهتما بهم، نشأوا نشأة صالحة فأبدعوا في أمتهم، وكان لهم شأن في وطنهم ومجتمعاتهم.
فجعل الله تعالى نبيه قدوة في الاهتمام باليتامى، فاليتم ليس عيبا، ولكنه سنة من سنن الحياة، لأنّ الحياة والموت بيد الله سبحانه وتعالى لا شريك له.
وهذا اليتيم لما بلغ الأربعين سنة من عمره، شرّف من قبل الله تعالى بحمل الرسالة، وتبليغها للناس كافة، بشيرا ونذيرا للعالمين.
وقد اعتاد عليه السلام منذ فترة مبكرة من حياته أن يختلي بنفسه، يهذبها ويربيها، ويتأمل في هذا الكون العظيم، حيث كان يختلي ويعتكف في غار حراء.
وفي يوم من الأيام، وهو جالس يتأمل في الغار، جاءه جبريل في اليقظة، قائلا له: اقرأ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أنا بقارئ.
ثم قال له: اقرأ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما أنا بقارئ، أي كيف اقرأ وأنا لا أكتب ولا أحسب، فقال له جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآيات يرجف فؤاده مرعوبا مما رأى وشاهد وسمع، يرجف فؤاده من هول ذلك المشهد وجلاله، فدخل على أم المؤمنين خديجة وهو يقول: زملوني زملوني، أي غطوني بالفراش أو غطاء النوم، فزملوه - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب عنه الروع، فقال لأم المؤمنين خديجة: لقد خشيت على نفسي وأخبرها بالخبر، فقالت رضي الله عنها: لا والله، لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ومن خلال ما تقدم نستفيد أيها الإخوة التالي:
- من المهم جدا أن يفرّغ الإنسان ولو دقائق من وقته في اليوم، أو الأسبوع على أكثر تقدير، ويختلي بنفسه، يحاسبها ويربيها، ويضع الخطط لمستقبله، وكيفية دعوة الآخرين إلى دين الله تعالى، مع التأمل في كتاب الله سبحانه، والتأمل في الكون المنظور، والذي يدل على قدرة الخالق العظيم، فيزداد إيمانا وصلاحا.
- إذا بلغ الإنسان أربعين سنة، عليه أن يراجع ذاته مليا، فبلوغه هذا السن من أجل النعم، لأنه وصل إلى سنّ الرشد، وبه يكون أقربَ إلى الله والرحيل إليه، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، فعليه هنا من بلغ هذا السن أن يحاسب النفس، وقد خبر الحياة، فرحيله من هذه الدنيا قريب جدا، ولقاء الله أقرب، فليعد لهذا اللقاء عدته، من توبة وعمل صالح.
ثم إنّه بوصوله الأربعين يكون أقربَ إلى قلوب الناس، وأرغب في الاستجابة لدعوته، فعليه أن يمتثل القدوة الصالحة للناس، وأن يسخر جهده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى العمل الصالح مع التوحيد الخالص له سبحانه.
- بداية نزول القرآن بكلمة اقرأ بيان واضح لهذه الأمة، لأن تكون أمة قراءة وحساب، أمة علم وثقافة، وطلبه لا يقتصر في الأعمار الأولى، فطلب العلم فريضة على كل مسلم من المهد وحتى اللحد.