سميحة الحوسنية:
كانت عقارب الساعة منهكة في ليلة الإعصار وكأنها تجر في رجليها قيودًا ثقيلة كثقل الجبال كلما اقتربت جحافل (شاهين)..زادت دقاتها التي بدأت تبعث آهاتها كعجوز ثكلى متخبطة وتحدث ضجيجًا خوفًا من تلك التفاصيل المحزنة المتوقعة التي يحملها (شاهين) في جعبته في تلك الليلة التي لم تذق فيها العين حلاوة النوم وسكينة المساء وقد تغيرت كل التفاصيل، فلم تكن ليلة عطرية يفوح ياسمينها كعادتها ثم تغفو على أسرّة النجوم.(شاهين يقترب)..ما أفجعها من كلمات تخرج من صوت مبحوح ممزق الحنجرة..وما أصعبها من لحظات..كانت العيون تترقب (شاهين) بخوف لا بشوق كما يستقبل الضيف، ماذا سيحدث خلال الساعات القادمة؟.فـ(شاهين) يقترب وماذا يخبئ لنا من تفاصيل مؤلمة سنعيشها بعد هدوء العاصفة، وكثير ما نردد ذات الأسئلة..هل ستختفي معالم ولاياتنا التي قرر إنزال جحافله فيها من الخارطة؟ أم سيغير مساره؟! فلربما قرر عدم الزيارة في لحظة..بدأت دقات القلب تتسارع ودخل (شاهين) كمارد لا يوقفه شئ يكتسح كل ما يعيق جبروته..يتابع مسيره بلا توقف، فخلّف مروره على عدد من القرى أكوامًا من الدمار يتركها خلفه ولا ينظر لحطامها..فكانت مشاهد مخيفة لم نرها من قبل ولم يشهدها كبار السن..كانت رياحه تلتهم كل ما حولها ويحدث صفيرًا وضجيجًا..ولد الرعب والخوف في القلوب..وأمطارًا لا تنقطع أغرقت المكان، فكانت الخسائر البشرية الفادحة للأرواح والممتلكات وأضرار جسيمة من الاعصار الذي تحول الى عاصفة مدارية بعدما اصطدم باليابسة غيّرت ملامح المكان..فقد تهدمت البيوت وتهاوت الأسقف والجدران، ولم تعد خارطة العودة الى المنزل كما عهدناها، فانقطعت الحركة وجرفت الأودية التي خرجت من صمتها لتشارك حفل الضجيج، فدمرت الشوارع وحمل في طريقه الكثير من الحيوانات النافقة.هدأت العاصفة بعد تلك الليلة الصاخبة..وكان الصباح المبلل الذي أفجع قلوبنا مختلفًا..فلم يكن صباحًا يحتسي القهوة وقدحًا من الشاي كعادته بل صباح شاحب ينفض عن جسده الأكوام المتناثرة والمتساقطة بثقلها على صدره وتبكي خيوطه الذهبية المتلاصقة على خطوات الطريق..هناك أصوات الصغار والمارّة تملأ الحارات وضجيج الحديث..هذا يجر حطام أشجاره ويلملم الفوضى التي تركها (شاهين) العابث عند أسوار منزله وذاك يحاول أن يوقظ الطين الذي التصق بأرضية منزله وشوّه جدرانه.من خلف نافذة السيارة كنت أحاول أن أغمض عينيي لكيلا أرى تلك المشاهد الحزينة والتي كانت ترافقني على امتداد البصر..وكم تمنيت أن يكون ذاك حلمًا أصحو منه بعد لحظات..وفي تلك الدقائق التي كانت تأنُّ كأنها تعاني من آلام المخاض كانت تمر عليَّ الكثير من مشاهد الدمار، فقد شوّه (شاهين) بمخالبه وجه المكان..انقطع الطريق..لا مجال للمواصلة فعدنا أدراجنا لنغير المسار..هناك يقف شبابنا العماني بشموخ الرجال وهمم الشجعان يعملون بكل إخلاص لفتح الطرق ويزيلون الحواجز المتطايرة التي تعيق وصول الناس الى وجهتهم..كنت أرى الكثير من صور التكاتف المجتمعي على الطرقات تعكس مدى وعي وثقافة وإنسانية هذا الشعب الأبي الذي لم تثنيه وتخذله المحن بل صقلته التجارب التي مرت بها السلطنة وزادته ثباتًا وتحملًا..وهكذا هم رجالات عمان الأشاوس رجال المواقف الصعبة وحماة الوطن..وكما يقال:(في الشدائد تنكشف المعادن وتتجلى معاني الاخوة والإنسانية والشهامة)..وها هي مزن الخير تجود على الشعب الوفي بتوجيهات جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ بتشكيل لجنة وزارية لتقييم الأضرار الناتجة من تأثيرات الحالة المدارية وتقديم العون والمساعدة للمواطنين الذين تأثرت منازلهم والممتلكات المختلفة في المحافظات التي تعرضت مباشرة بمركز الحالة المدارية (شاهين)، وتوفير شتى أنواع الدعم للتخفيف من حدة تلك التأثيرات عليهم في أسرع وقت والمشهد الحقيقي حاضر من خلال صور التعاون المجتمعي لأبناء الوطن..فالكل يعمل كخلية نحل متواصلة في الجبل والسهل والبحر..
واجب وطني وإنساني شارك فيه جميع فئات المجتمع المؤسسات الحكومية والعسكرية والاهلية والخيرية والفرق التطوعية وبواسل جعلوا أرواحهم في راحتهم لإنقاذ إخوانهم ومساعدتهم في كل مكان.
فشكرًا لذاك التدفق الذي شهدته الولايات المتضررة من المساعدات ودخول أفواج من شبابنا المتطوعين من كل أرجاء السلطنة..الكل حاضر من أجل عمان وشعبها..مررنا بالكثير من المِحن والصعاب خلال سنوات عديدة، وفي كل مرة يشهد التاريخ أجيالًا أصيلة تمضي على خطى ونهج نبيل من القيم الإنسانية المفعمة بحب الوطن والتضحية من أجله..طوبى لك يا وطني الحبيب..بشعب أبيٍّ أصيل يحلّق في سماء الفخر والعزة برجاله البواسل الأشاوس..وما (شاهين) إلا صفحة من كتاب عتيق يحكي مواقف أمجاد العمانيين عبر الزمن والتي ينحني لها التاريخ إجلالُا..شكرًا لكم أبناء عمان الأوفياء.
* مراسلة (الوطن) بالخابورة