د. أحمد مصطفى أحمد:
أطلق مكتب الأرصاد الجوية ومكتب رئاسة الوزراء في بريطانيا حملة بعنوان "الاستعداد للطقس" بهدف توعية البريطانيين باحتمالات تقلب الجو، وأن يأتي الشتاء مبكرا ويشهد بردا قارسا وصقيعا. فقد بدأت الثلوج بالتساقط في اسكوتلندا، ويتوقع أن تهطل على بقية بريطانيا في الأسابيع المقبلة. ربما ليس من غير المعتاد أن يهبط الثلج في أكتوبر، لكن الشتاء القادم يرجح لأن يكون شديد البرودة. ربما ليس في بريطانيا وحدها، بل في نصف الكرة الشمالي كله، ذلك على الرغم من أن حرارة الصيف هذا العام كانت أعلى من المعتاد. وأدت إلى حرائق وفيضانات، حتى شهدت سيبيريا في روسيا حرائق غير مسبوقة باعتبارها أبرد مكان مأهول على سطح الأرض.
هذه التغيرات التي يشهدها مناخ الكرة الأرضية ستكون في بؤرة الاهتمام الشهر القادم مع استضافة بريطانيا قمة المناخ العالمي (كوب26). يرى كثير من المدافعين عن البيئة وأنصار مكافحة التغيرات المناخية أنه ربما اقترب العالم من نقطة "فوات الأوان" لعكس التغيرات المناخية التي تتسبب في زيادة حدة العواصف والأعاصير والحرائق والفيضانات وتقلبات درجات الحرارة القاسية. حسب تقديرات خبراء الأمم المتحدة فإن النقطة الفاصلة هي وصول التغير في درجة حرارة الأرض إلى ما يزيد عن مدى 1.5 درجة مئوية. ويختلف العلماء حول ما إذا كنا وصلنا لهذا الحد أم لا، أم على وشك الوصول إليه وتجاوزه؟ المشكلة أن العالم يواجه خيارات محدودة في محاولة الحد من انبعاثات الكربون في ظل أزمة طاقة تتجمع في الأفق وتنذر بمعاناة سكان نصف الكرة الشمالي هذا الشتاء.
تحتاج الدول، مثل بريطانيا، لتلك المبادرات لضمانة سلامة السفر في ظروف الطقس السيئة وتجنب فداحة الأضرار في الممتلكات والوقاية الصحية العامة.. إلخ. وفي الوقت الحالي، تزيد الحاجة إلى برامج التوعية تلك، وأهمية مشاركة المسؤولية بين الحكومات والأفراد والتجمعات السكانية. فعلى كل منها دور يؤديه لتقليل مخاطر وأضرار تغيرات الطقس. هذا التعاون الذي تسعى الحكومات لتحقيقه في مواجهة تقلبات الطقس القاسي ضروري جدا في ظل ما تواجهه الحكومات من ضغوط، خصوصا بعد عام الوباء وتبعاته الاقتصادية. والهدف في النهاية ألا تلعب مناورات السياسة دورها في إضعاف هذا التعاون وخلخلة المواجهة الجماعية للكوارث الطبيعية.
ربما لا تكون الحاجة في منطقتنا لمبادرات مماثلة بالشكل الطارئ ذاته الذي يميز الحاجة في بريطانيا والغرب. فالتعاون والتآزر في مواجهة أحداث الطبيعة متأصل في ثقافة شعوبنا. لكن هذا لا يعني أننا أيضا بحاجة لتلك المبادرات، ولتكن مسؤولية إطلاقها على الحكومات ومنظمات المجتمع المدني لتعزيز قِيَم التآزر ونجدة الغير. وأيضا لتفادي أي تراخٍ من قبيل "اتكال" طرف على آخر في تلك الحالات. لعل إعصار "شاهين" الأخير في السلطنة مثال جيد على ذلك. فقد جاء الإعصار أقوى من المعتاد، وامتد تأثيره بهطول الأمطار نحو الغرب بأكثر مما هو معتاد. وكان آخر إعصار شهدته السلطنة بهذه القوة أو ما يقاربها في 2007. مع ذلك، نجد أن استعداد الدولة بكل أجهزتها، بداية من إخلاء المناطق الساحلية المتوقع تعرضها للإعصار إلى توفير معدات وتجهيزات الطوارئ للمناطق التي عانت من الفيضانات التي تسبب فيها الإعصار، كان في مستوى جيد. ورغم أنه، والحمد لله، لم يؤدِّ الحدث الطبيعي إلى كثير من الضحايا بين البشر، إلا أن هذا العدد القليل نتيجة غرق طفل أو وفاة شخصين في جرف سيل ما كان يمكن تفاديه عبر استعداد أجهزة الإنقاذ والطوارئ والدعم الحكومية وحدها. إنما هنا تأتي أهمية التوعية ببرامج مثل برنامج "الاستعداد للطقس".
ملاحظة أخرى مهمة، لمستها شخصيا خلال أيام الإعصار، هي أن الشعور بالتآزر والتضامن والاستعداد للمساعدة تجاوز سلطنة عمان إلى دول شقيقة وصديقة. وفي أحاديث مع زملاء المهنة، وما شاهدته عبر وسائل الإعلام العامة في دول عربية، خلصت إلى أن السياسة التقليدية لسلطنة عمان تؤتي أُكلها فعلا حين يجد الجد. فلم يقتصر الأمر على التعاطف الشعبي، بل كان هناك استعداد من كثيرين لتقديم العون والمساعدة حال طلبتها السلطنة، على الرغم من كفاءة أجهزة واستعداد مواجهة الأحداث المماثلة فيها.
في الشدائد تظهر معادن الرجال، كما يقول المثل. كذلك الحال مع الشعوب والأمم والدول. وكلما زمجرت الطبيعة بحدث مماثل، يظهر معدن الشعب العماني وحكومته. صحيح أن أضرارا مادية ربما تقدر بالمليارات قد تخلفها مثل تلك الحوادث الطبيعية، وربما نعاني خسائر في الأرواح مهما كان عددها قليلا. لكن الناتج الجانبي المتمثل في اختبار الجاهزية والاستعداد لدى السلطات ومدى التفاف الشعب كله حول مبدأ التآزر والدعم من الأهمية بمكان كاشفا عن هذا صلابة وقيمة معدنه. وسواء تمكن العالم من مواجهة التغير المناخي، والتزم بتعهداته السابقة والتي سيتفق عليها في القمة العالمية الشهر الماضي، فإن ظواهر الطقس القاسي لن تختفي من على وجه الأرض. وسواء أيضا زادت حدتها أو خفت، فإننا جميعا بحاجة لتعزيز قِيَم التآزر والتعاون، ربما ليس فقط في وقت المحن والشدائد ولكن في أطول فترات ممكنة. فتغيرات الطقس القاسي لم تعد تقتصر على فصل، بل أصبحت على مدار العام وفي كل أرجاء الأرض تقريبا.