د.أحمد بن علي المعشني:
نخوة سكان محافظة ظفار ممطرة على الدوام، وفي جميع الفصول والشهور، يقصدهم كل معسر وغارم ومحتاج، تقام على هممهم خيام الأعراس في جميع المناطق، فيتوافدون ويتسابقون في (المغبور)، فما أن ينادي المؤذنون لصلاة الظهر حتى تكون حقائب العرسان قد امتلأت أو تكاد بمبالغ مالية وفيرة تعين العرسان على سداد نفقات زيجاتهم.
وفي الآونة الأخيرة ظهرت نخوة جميلة وعادة جريئة وسنة حميدة لدى أبناء محافظة ظفار، وهي سجية قديمة لا تكاد تجدها في أي منطقة في العالم إلا في ظفار.
فمنذ أن كانوا مهاجرين للعمل في الخارج، كانوا في جميع البلدان التي يستقرون فيها يقيمون الجمعيات ويجمعون التبرعات، ويفيض كرمهم على كل من يقصدهم من أي منطقة أو بلد، سواء كانوا يعرفونه أو لا يعرفونه.
تتمثل تلك السجايا في مبادرات جبر الخواطر وفك الكربات وتسديد الديون عن المعسرين.
مبادرات اجتماعية شجاعة وجريئة تشبه مصباح علاء الدين السحري.
يعلن أحد المعسرين ممن ركبتهم الديون، نتيجة للكساد الذي خلفه كورونا وما سبقه من غياب المشاريع الخدمية وما نتج عن ذلك من تراكم المدفوعات والاقساط الى البنوك وشركات التمويل، حتى كادت تلك الأحوال والظروف التي يتعرض لها بعض التجار الشباب أن تقضي عليهم وتنهي حياتهم في غياهب السجون، لو لا تلك المبادرات الشجاعة التي تستنخي أبناء ظفار ويطلقون على أنفسهم (أبناء مظفر) فتتحول الأزمات إلى هبات وتبرعات.
وقد نشطت هذه السجية الرائعة في الآونة الأخيرة عندما نادى أقارب أحد المتضررين الذي ركبته ديون باهظة، فنادى مستنخيًا الظفاريين، وأعلن أنه بالنيابة عن المديون يستقبل التبرعات النقدية والعينية، فصار بيته في الجبل قبلة لأهل النخوة والجود، جاء الظفاريون من هضاب ووديان وشعاب ظفار يحملون المبالغ النقدية ويركبون سياراتهم ويحضرون رؤوس أمواشي حتى فاقت التبرعات سقف التوقعات.
فاضت الأموال.
جاءت كلها من جيوب الفقراء وذوي الدخل المحدود مؤكدين بذلك قدرتهم واستعدادهم لتمويل كل عمل نبيل، بعد ذلك تبعهم آخرون واستمر شلال النخوة والكرم يفيض من جميع مناطق ظفار ومن جيوب جميع أبنائها على اختلاف قبائلهم وفئاتهم.
تسابق سكان محافظة ظفار (ببني مظفر) كما يطلقون على أنفسهم، كعادتهم يأتون بما يستطيعون، وقفزت الأرقام مرة أخرى إلى سقف تجاوز توقعات المعسرين.
وما كادت نداءات واستغاثات المعسرين أن تهدأ حتى استجاب سكان محافظة ظفار لنداء إخوانهم المتضررين من اعصار (شاهين) في المناطق المتضررة من ذلك الإعصار.
سيروا القوافل وفتحوا أبواب التبرعات النقدية في البنوك وقفزت الأرقام مرة أخرى كالعادة حتى تجاوزت التوقعات.
ما أجمله من جنون، ما أعقله من بذخ، ما أجرأه من كرم، ما أشجعهم من أهل وأقارب، هؤلاء الذين تعودوا على العطاء منذ القدم، منطلقين من مبدأ ما نقص مال من صدقة.
كل إخواننا في ظفار مصابون بداء العطاء و(السخسخة) الجميلة كجمال أرضهم وطبيعتها وهوائها.
ذات يوم ورد رجل مطارد بثأر إلى عين ماء بالقرب من مدينة طاقة، كان يحمل محفظة من الجلد وبداخلها كل المال الذي يمتلكه وقدره (100) ريال فضية، فوجد شخصًا يستثير نخوة الحضور ويطلب احسانهم، فما كان منه ويدعى مسعود أر زودر من بيت باقي إلا أن أفرغ محفظته من كل ما فيها من نقود، وحملها فارغة.
هذه العادات ليست وليدة اليوم فهي قديمة في ظفار، وهناك قصص عجيبة لأبناء محافظة ظفار شهدتها بنفسي عندما كنت صغيرا وسمعت عنها من والدي ومن أهلي وأقاربي، ومن الجميع.
النخوة في ظفار تجري في نفوس سكانها وشرايينهم كجريان مياه عيون أرضهم؛ دربات وحمران وارزات وجرزيز..وغيره. إنه شلال الكرم، وسجية الاستجابة إلى نداء الواجب. ما أجملها من سنة حسنة، وما أروعها من عادة تجبر الخواطر وتعيد الفرحة والابتسامة إلى نفوس الغارمين والمعسرين.

* رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية ـ مؤسس العلاج بالاستنارة (الطاقة الروحية والنفسية)