نجوى عبداللطيف جناحي:
يُعدُّ الوقف الخيري من أنواع التبرعات التي تحافظ على التماسك الاجتماعي، وتسدُّ احتياجات الناس، وتوفر خدمات اجتماعية بشكل مستدام، وهو بطبيعة الحال هو إحدى الوسائل المهمة التي تحقق الأمن الاجتماعي، كما يعمل الوقف الخيري على القضاء على الطبقية الاجتماعية، فهو يقرب المسافات بين طبقات المجتمع عندما يستعان بأموال المقتدرين لمساعدة المحتاجين. ويظهر التحليل التاريخي أن الوقف الخيري قد أسس أصلا لسدِّ حاجات اجتماعية قائمة ودائمة بمبادرة أهلية وبتوجيه وإشراف من ولي الأمر.
والوقف الخيري هو تبرع طوعي اختياري من الواقف، ولهذا الواقف دوافع ومبررات وأسباب تدفعه لتخصيص جزء من ماله الذي اجتهد للحصول عليه؛ ليكون وقفا خيريا يساعد به الناس، وتختلف طبيعة هذه الدوافع من مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، ومن شخص إلى آخر، وفيما يلي نستعرض أبرز هذه الدوافع:
• رغبة الواقف في الحصول على الثواب والتكفير عن الذنوب ورغبة، الإنسان في الاستمرار في الحصول على الأجر والثواب حتى بعد موته لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله تعالى عنه ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فعندما يوقف الواقف يشعر بالراحة النفسية والاطمئنان، ويزيده يقينا بأنه سينال السعادة في الدارين الدنيا والآخرة. وفي تقديري أن هذا الدافع هو أقوى الدوافع لدى الواقفين وأكثرها شيوعا، لكن هذا لا يعني عدم وجود دوافع أخرى لها أهميتها.
• من الدوافع التي تجعل الإنسان يوقف ماله، الدافع الاجتماعي وهذا الدافع نتيجة الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع الذي يعيش فيه فيدفعه ذلك إلى تخصيص جزء من ماله لتوفير مرفق معيَّن يخدم به أهل حيِّه أو بلدته كأن يبني حمامات عامة لأهل الحي، أو حديقة عامة لأهالي المنطقة التي يسكنها، أو بناء مظلات تحمي المارة في الطريق من حرارة الشمس.
• وأحيانا يوقف الواقف ماله مضطرا غير مختار كأن لا يكون لهذا الواقف أبناء أو ذرية يورثون ماله فيفضل أن يوقف المال ليصل له الأجر والثواب بدلا من أن يستفيد منه الغرباء.
• والبعض يوقف أمواله رغبة في كسب ثناء الناس وتحقيق الوجاهة الاجتماعية فتجده يوقف مبنى ليكون مسجدا أو مدرسة أو مستشفى، ويؤكد على أن يوضع عليه لافتة يكتب عليها اسمه، ويقيم الاحتفالات عند افتتاح المبنى ويدعو وجهاء القوم فغايته من هذا الوقف هو كسب وجاهة اجتماعية ورفعة مكانته بين قومه.
• أما البعض فيوقف من باب حب البقاء، فالإنسان بطبيعته لديه غريزة حب البقاء والتمسك بهذه الحياة، لذا ترى الإنسان يسعى لأن يترك ما يخلد ذكراه، فهو يخشى نسيان الناس له وغيابه عن الذاكرة، ولعل هذا الدافع يجعل الإنسان حريصا على إنجاب الأبناء ليخلدوا اسمه، وهذا الدافع نفسه يجعل الإنسان يخصص بعضا من ماله فيقيم مدرسة أو مسجدا أو مستشفى يكتب عليه اسمه.
• ويوقف البعض ماله من باب التعاطف الإنساني والشفقة على المحتاجين، وتجد هذا المظهر واضحا عندما يساند الناس ويقدمون العون للمناطق المنكوبة نتيجة الكوارث الطبيعية كالقحط أو الزلازل، أو نتيجة التي يفتعلها الإنسان كالحروب مثلا، ففي مثل هذه الظروف تكون هناك مشاهد مؤلمة يهتز لها قلب أي إنسان، فيوقفون أموالهم لإنقاذ الناس تعاطفا مع مصاب الناس، فعلى سبيل المثال، يوقف البعض دارا لإيواء الأطفال الأيتام الذين خسروا أسرهم ومنازلهم في تلك الكوارث ولا يجدوا من يأويهم، ويوقف البعض المستشفيات لإنقاذ المرضى.
من خلال ما سبق يتبين أن هناك دوافع إيجابية مقبولة، ودوافع غير مقبولة، ومهما كانت وجهة نظرنا في تلك الدوافع علينا ألا نوجه حكما على الواقف بأن دوافعه كانت دوافع دنيوية أو دوافع لنيل رضا الله، فلا يجوز لنا أن نحكم على نيات الناس وما تضمر قلوبهم، فالله تعالى أدرى بنيات العبد.
ومما لا شك فيه أن لمعرفة دوافع المتبرعين للتبرع لها أهمية كبرى، فهي تساعد الجهات المعنيَّة بالعمل الاجتماعي على تشجيع الواقفين وتحقيق رغباتهم وإشباع دوافعهم، ليدفعهم ذلك للتبرع بأموالهم ووقفها لسدِّ احتياجات المجتمع، ولن يستطيعوا فعل ذلك إلا إذا تفهموا الدافع الحقيقي الذي يجعل الإنسان يوقف ماله، فيركزوا على تشجيع الناس من خلال تحفيزهم وإثارة هذه الدوافع. وفي تقديري أن نجاح المعنين بالعمل الاجتماعي في تحفيز الواقفين يعتمد ـ إلى حد كبير ـ على تفهمهم لدوافع أصحاب الأموال لوقف أموالهم، وقدرتهم على إثارة هذه الدوافع وإشباعها. كما أن فهم دوافع الواقفين فهما صحيا يساعد الناشطين الاجتماعيين على وضع برامج توعوية لتحفيز الناس على الوقف، سواء عن طريق الحملات الإعلامية التي تشجع الناس على الوقف وتقنعهم بأهميتها، وبرامج تسلط الأضواء على الاحتياجات الضرورية في المجتمع لتدعم من قبل الواقفين، فكلما زاد الوعي بأهمية الوقف الخيري في المجتمع زاد عدد الأوقاف والتي تؤثر بدورها في سدِّ احتياجات الناس... ودمتم أبناء قومي سالمين.