أ.د. محمد الدعمي:
شهد افتتاح معرض الــ"كرستال بالاس" Crystal Palace انتشاء البريطانيين بتفوقهم على أغلب دول العالم بفضل "الثورة الصناعية"، ذلك أن الطراز المعماري لهذا المعرض الذي أقيم من مادتي الفولاذ والزجاج قد شكل قفزة معمارية نوعية شكلت قمة التفوق الإمبراطوري البريطاني. بفضل ذات الثورة الصناعية، التي دعمها فريق من أعظم مفكري وفلاسفة "العصر الفكتوري" غدت "بريطانيا العظمى" هي الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وعن "ممتلكاتها" عبر البحار السبعة!
انعكس هذا الانتشاء على زهو العديد من المفكرين الذين انجرفوا بموجة التفاؤل حد الاعتقاد بأن التاريخ لا يمكن أن يرجع إلى الوراء، باعتبار أن بريطانيا ستسير قدمًا إلى الأمام إلى ما لانهاية دون الحاجة للالتفات للوراء! ومن اختلالات ذلك هو أن هؤلاء المتفائلين أهملوا دروس التاريخ الدوري (حقب تقدم وحقب تراجع) محتضنين نظرية التقدم المتواصل والتطور الخطي إلى أمام دون الارتجاع أو الالتفات إلى الماضي.
ولكن، في خضم ذروة هذا التفاؤل، ظهر من بين مشاهدي معرض "كرستال بالاس" من المفكرين الذين نبهوا إلى أهمية الارتكان إلى الماضي ودراسته لاستنباط الدروس والعبر وأنواع الخبرات، مستذكرين صعود الإمبراطورية الرومانية، تم ضعفها وتلاشيها.
وإذا كان المتفائلون قد ارتكنوا إلى نظرية الحركة التاريخية المتواصلة إلى الأمام، نبه نفر آخر من المفكرين "الرومانسيين" إلى أن التاريخ يمكن أن يفرز حركة دورية ارتجاعية (أو دورانية) تتشكل من تكرار أنماط التقدم والتراجع التاريخية: فيعيد التاريخ نفسه من حقبة لأخرى.
حذّر هؤلاء المتفائلون من أن "الدورة التاريخية" ليست بظاهرة جديدة، لأنها مبرهنة في تواريخ الأمم الأخرى، زيادة على الأمم الأوروبية ذاتها. وبذلك، خلص هؤلاء إلى أن على بريطانيا أن تواريخ تتوقع، وحقبة تراجع ونكوص بعد حقبة التقدم القائمة، وهكذا دواليك!
وإذا ما كان ضباط المستعمرات البريطانيون منهمكين بتوسيع "ممتلكات" التاج بين آسيا وإفريقيا، نبه نفر من كبار الكتاب إلى أن بريطانيا لا يمكن أن تبقى هي القوة الأعظم إلى الأبد؛ وأن عليها أن ترتجع للماضي الوطني وإلى ماضي الأمم الأخرى، دروسًا تحذيرية من مغبة التمادي في التوسع الكولونيالي على حساب الأمم الإفريقية والآسيوية إلى ما لا نهاية!