د. رجب بن علي العويسي:
مع انتهاء الحالة المدارية "شاهين" التي تعرضت لها بعض مناطق السلطنة في الثالث من أكتوبر الجاري، يأتي التساؤل كعادته مع الحالات المدارية والأنواء المناخية الأخرى بالخط العريض مختوما بعلامة استفهام كبرى، ماذا بعد؟ ورغم قصر السؤال إلا أن إجابته تكاد لا تحويها الأقلام أو تحتويها المدونات والدفاتر، والتعبير عن هول ما نتج عن إعصار شاهين من أضرار جسيمة في الممتلكات والموارد والثروات والبنية الأساسية والخدمات العامة، وبشكل خاص في ولايتا السويق والخابورة وتوابعهما لا تسعه مجلدات الحياة ومواقفها، ليختزل "شاهين" حجم البناء والجهد الوطني وما تحقق على أرض بلادي من تقدم وتطور ونهضة عمرانية وبنى أساسية متكاملة في شبكات الطرق وخدمات الكهرباء والمياه والاتصالات وغيرها في ومضة هدب، وغمضة عين، ولمحة بصر، في هول ما خلفه من دمار شامل، وتركه من شواهد مرعبة، ومواقف محزنة، ومشاهد مؤلمة، تقشعر من رؤيتها الأبدان، وأمر مفجع يفوق ما يتصوره العقل والمنطق، ذلك أن الإجابة عن التساؤل بعد هذه الفاجعة العظيمة والجائحة الكبيرة والإعصار المدمر، يمثل ميلاد حياة جديدة، وانطلاقة متجددة بعد ليل كئيب، اغرورقت فيه الأعين، وصعقت من هوله القلوب، وصدمت من هوله الأنفس، وضاعت فيه الأحلام، وانقشعت بسببه الآمال، وتلاطمت فيه الأمواج، وتداخلت فيه اليابسة بالبحر، وارتفعت فيه صيحات الدعاء والتكبير والتهليل، في استعادة الذاكرة لمشهد الدمار الذي خلَّفه إعصار "جونو" قبل خمسة عشر عاما مضت. إنه ـ بمعنى آخر ـ إعادة إنتاج الواقع الوطني من جديد، آخذا في الاعتبار المكونات الروحية للإنسان العماني، وجوانب القوة والخبرة النوعية التي تحققت لعُمان في إدارة الحالات الطارئة، والتي أكسبتها قوة ومهنية واحترافية حتى أصبحت بيت خبرة إقليميا بلا منازع. ومع استمرار تعرض السلطنة للحالات المدارية، يجب أن تنشد الجاهزية العمانية في إدارة الحالات الطارئة مسارات أعمق في التكاملية واتساع محطات الإصلاح لتتحول اليوم من التفكير في سيناريوها العمل قبل وفي أثناء وبعد الجائحة والتي تمثل اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة والمنظومات التابعة لها، محور عملها، لتتجه إلى جاهزية أخرى واستباقية أكبر تنطلق من تأهيل وتمكين البنية الأساسية والمشروعات التنموية، والخطط الخمسية الموجهة نحو التخطيط العمراني والإسكاني والخدمات لتصنع جدارا متماسكا وحصنا حصينا يقف في وجه الأعاصير والحالات المدارية.
ومعنى ذلك أن خطوات العمل وسيناريوهات الأداء ومراحل المواجهة للحالة المدارية بعد رصدها من المركز الوطني للإنذار المبكر من المخاطر المتعددة، ودخولها ضمن مهام واختصاصات عمل اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة قد تم إحكامها والتعامل معها، ووضع الاستراتيجيات والآليات التي تعمل على تشخيص الحالة وتقييم الوضع، سواء قبل الحالة المدارية والجاهزية القبلية في التعامل معها، أو في تفعيل خطوط التأثير، والمساندة اللوجستية والإعلامية والتطوعية والمجتمعية في سبيل توعية الناس بالحالة والمخاطر المترتبة عليه، وتوفير أماكن الإيواء وإقناع المواطنين والمقيمين بإخلاء المناطق المنخفضة المتوقع تأثرها وغمرها بمياه الأمطار الناتجة عن الحالة المدارية عليها، آخذة في الاعتبار ارتفاع منسوب مياه البحر، وشدة الرياح والعواصف الرعدية، والفيضانات، وارتفاع منسوب المياه في السدود الناتجة عن التوقعات بنزول كميات كبيرة من الأمطار، وهي مؤشرات يمكن القياس عليها في استيعاب الحالة وكفاءة سيناريوهات العمل وفاعلية أدوات التأثير وقدرتها على صناعة تحول في سلوك المجتمع نحو الحالة، الأمر الذي ينعكس على مستوى الالتزام، ويقلل من التصرفات السلبية والمخاطرات غير المحسوبة الناتجة عن الفيضانات وسقوط المنازل والأشجار، ويستمر هذا الجهد مع كل مراحل التعامل مع الحالة بما يضمن كفاءة عمليات التوعية والتثقيف والتنبيه والتحذير والرقابة وغيرها، والتزام المجتمع بالتعليمات الصادرة من اللجنة الوطنية والمركز الوطني لإدارة الحالات الطارئة، وفرق العمل الميدانية في الإسعاف والإنقاذ والإخلاء التي تنفذها شرطة عمان السلطانية وقوات السلطان المسلحة بتشكيلاتها المختلفة البرية والبحرية والجوية التي تعمل في إطار عمل وطني مشترك يصنع الإرادة ويبني القوة ويعزز من ممكنات الأداء الفعال.
وبالتالي فالمسارات إلى هذا الحدِّ معلومة، والجهود مقدرة، والأداء عالي الكفاءة، والإنتاجية المتحققة ـ بفضل الله ـ تفوق التوقعات، والتناغم المجتمعي والتكاتف الوطني نموذج من التلاحم والتعاون يفصح عن ذاته، ويتحدث عن نفسه بدون حاجة إلى تهويل، ليتمازج الرصيد الخبراتي والمهاري المكتسب مع الرصيد القِيَمي والأخلاقي المتأصل في الشخصية العمانية. فلقد خبر العمانيون الأزمات والجوائح والحالات المدارية، وتكونت لديهم ثقافة أصيلة بما تحمله هذه الأحداث من فواجع واجهوها بكل صبر، وتعاملوا معها بمهنية عالية، وشكلت في قاموسهم محطة اختبار للذات، والتقاط الأنفاس لتحقيق تحول يزيل الأحزان ويقوي رابطة الإنسانية في مجتمع مسلم، يدرك حقيقة الإيمان، ويعني نهج الابتلاء، ويحسن إعادة هندسة البناء الذاتي، ويقرأ في نواتج هذه الأحداث المتراكمة عليه من كل صوب تجربة لاستنهاض الذات، واستنطاق المبادئ والأخلاقيات، وهي في الوقت نفسه سنن كونية وتحذيرات إلهية في تهيئة النفس واستعدادها في فهم مسؤولياتها والوقوف على معطيات الحياة حلوها ومرها، ليهب الناس جميعهم نحو أداء المهمة، والقيام بالواجب، وتبرز روح الإنسانية والفطرة السوية في تآلفهم وتراحمهم وتكاملهم كالجسد الواحد يشد بعضه بعضا. فعندنا يستصعب الأمر ويشتد هول الفاجعة ليواجه الناس ذلك بمزيد من الصبر والإيمان واليقين والثقة والرضا والتسليم، ومشاعر وطنية جياشة تنصهر فيها الأنانيات والأشخاص والفردانيات والفوقيات والميزات والوظائف والمكانات الاقتصادية والاختلافات والفروقات، فتقوي روح الأخوة، وتبرز صدق المشاعر وتؤسس لنهج التضحية، وتذكي روح المنافسة في أيهم يقدم أفضل ما لديه وينفق من أفضل أمواله وأحبها إليه، شواهد إثبات على أن المواطن قادم بدوره على أكمل وجه، وحملات الإغاثة التي يقودها من جنوب عمان وشمالها وشرقها وغربها في مساعدة المتضررين من إعصار شاهين لتتجه زرافات ووحدانا إلى محافظة شمال الباطنة خير دليل يعكس تلاحم المجتمع العماني وتعاضد أبنائه، ليبرز حقيقة المواطنة والحس الوطني والشعور الجمعي، والروح الإيجابية، ويعكس مستويات عالية من الذوق والرقي الاجتماعي.
من هنا تبقى الإجابة الكاملة عن التساؤل المطروح، مرهونة باتجاه الجهد الحكومي (مؤسسات الجهاز الإداري للدولة) إلى أساس المشكلة وقراءة واقع التحدي، بما يعنيه ذلك من دور المنظومات المجتمعية الإسكانية والبلدية والخدمات العامة وشبكات الطرق والصرف الصحي والمياه في استكشاف الخلل والوقوف على عين المشكلة وقراءة نواتج الفاجعة، وحجم الأضرار الناتجة عن الحالة المدارية، في اعتراف بالقصور، ووضع اليد على الجرح، وفهم الأسباب الخفية وراء ما يجري من أحداث، وما يحصل من مواقف ونكبات، بكل تفاصيل المشكلة (شبكات الصرف الصحي والمياه وتصريف مياه الأمطار، والمواصفات الهندسية للمباني ومراعاتها جانب التقليل من مخاطر تأثيرات الأنواء المناخية عليها والاشتراطات الهندسية والفنية في البناء أو الديكورات الخارجية ونوعية الأبواب والنوافذ والزجاج الخارجي للمنازل والبلكونات ومعايير الأمن والسلامة في المنازل والتخطيط العمراني وتوزيع الأراضي السكنية، ومجاري الأودية، سدود التغذية الجوفية، وشبكات الطرق، والجسور، وغيرها كثير) لتضع مجلس الوزراء الذي أسند إليه الأمر السامي مسؤولية تقييم الأضرار التي تعرضت لها منازل المواطنين وممتلكاتهم المختلفة في المحافظات التي تأثرت مباشرة بمركز الحالة المدارية، بهدف توفير شتى أشكال الدعم والمساعدة اللازمين للتخفيف من حدة تلك التأثيرات عليهم في أسرع وقت ممكن، والإسراع في إصلاح البنية الأساسية التي تضررت نتيجة هذه الأنواء، بالإضافة إلى اتخاذ ما يلزم من إجراءات لسرعة إعادة الخدمات الأخرى المتضررة؛ وبالتالي الأمانة الأخلاقية والمسؤولية التاريخية التي يتحملها المجلس في وضع الأوامر السامية موضع الطاعة والتنفيذ والوقوف الفعلي على معطيات الحالة.
أخيرا، تبقى الموجهات والممكنات التي حددها الخطاب السامي لجلالة السلطان المعظم في الحادي عشر من أكتوبر 2021، والأطر التي رسمها لعمل اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة والمنظومات التابعة لها أو عمل اللجنة الوزارية المشكَّلة لتقييم الأضرار التي تعرضت لها منازل المواطنين وممتلكاتهم المختلفة في المحافظات التي تأثرت مباشرة بمركز الحالة المدارية "شاهين"، والأوامر السامية بإنشاء صندوق وطني للحالات الطارئة، مرتكزات لتعزيز كفاءة العمل الوطني الموجه لهذه المنظومة، وهو ما يضع مجلس الوزراء كما أشار إلى ذلك الخطاب السامي بقوله "وعلى مجلس الوزراء تحقيق ذلك" يضعه أمام مسؤولية تحقيق المزيد من التكامل والتعاون بين كافة القطاعات كمنظومة عمل واحدة تتعاون وتتكامل فيما بينها لأداء واجباتها ومسؤولياتها على الوجه الأكمل، وبالتالي ما يعنيه ذلك من مراجعات وطنية لكل أجندة العمل التي أشرنا إلى بعضها، لتضع اليد على الجرح، وتعيد النظر في كل الثغرات والمشكلات التي أفصحت عنها الحالة، ورصدتها اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة ومنظومات عملها، وأبرزت الحاجة إلى مراجعات جادة فيما يتعلق بعمليات التخطيط والتنسيق والرقابة وتنفيذ المشاريع والمتابعة والتكامل بين المؤسسات، ومدى تجسيد ذلك في معايير واضحة تجسدها الاستراتيجية السكانية والإسكانية والعمرانية والبنى الأساسية كالطرق والمياه والكهرباء وغيرها في إطار عمل رؤية مدن المستقبل الذكية، والممكنات التي تعزز من قدرتها في التعامل مع مختلف الحالات المدارية والتصنيفات المتعددة لها. ومعنى ذلك أن مفهومنا في إعادة البناء يجب أن ترتكز اليوم على معطيات هذه الحالات، بحيث لا تقتصر المسألة على إعادة الحياة لطبيعتها السابقة وعودة كل مواطن إلى منزله آمنا مطمئنا ـ رغم ما يشكله ذلك من أولوية ـ بل أيضا عبر معالجة الإخفاقات الحاصلة في البنية الأساسية التي أدت إلى تفاقم الوضع وتحول مسارب الأودية ومجاريها إلى الشوارع والطرقات وإلى مساكن المواطنين والمناطق السكنية المأهولة، فإن الخبرة التي اكتسبها العمانيون في إدارة الحالات الطارئة بحاجة إلى خبرة أخرى تتجه إلى البنية الأساسية والمشروعات التطويرية والخدمية والإنتاجية، ومنظومة التخطيط العمراني، والتخطيط للمناطق الصناعية والتجارية والزراعية بما يقلل من حجم التأثيرات الناتجة عن هذه الأعاصير.